الماتريدية
التعريف :
الماتريدية
: فرقة كلامية ، تنسب
إلى أبي منصور الماتريدي ، قامت على استخدام
البراهين والدلائل العقلية والكلامية في
محاججة خصومها ، من المعتزلة والجهمية وغيرهم
، لإثبات حقائق الدين والعقيدة الإسلامية .
التأسيس وأبرز الشخصيات :
مرت
الماتريدية كفرقة كلامية بعدة مراحل ، ولم
تعرف بهذا الاسم إلا بعد وفاة مؤسسها كما لم
تعرف الأشعرية وتنتشر إلا بعد وفاة أبي الحسن
الأشعري ، ولذلك فإنه يمكن إجمالها في أربع
مراحل رئيسية كالتالي :
·
مرحلة التأسيس : [
000-333هـ] والتي اتسمت بشدة المناظرات مع
المعتزلة وصاحب هذه المرحلة :
-
أبو منصور الماتريدي :
[ 000-333هـ ] : هو محمد بن محمد بن محمود الماتريدي
السمرقندي ، نسبة إلى ( ماتريد ) وهي محلة قرب
سمرقند فيما وراء النهر ، ولد بها ولا يعرف
على وجه اليقين تاريخ مولده ، بل لم يذكر من
ترجم له كثيراً عن حياته ، أو كيف نشأ وتعلم ،
أو بمن تأثر . ولم يذكروا من شيوخه إلا العدد
القليل مثل : نصير بن يحيى البلخي ، وقيل نصر
وتلقى عنه علوم الفقه الحنفي وعلوم المتكلمين
".
-
أطلق
عليه الماتريدية ، ومن وافقهم عدة ألقاب تدل
على قدره وعلو منزلته عندهم مثل :" إمام
المهدى " ، " إمام المتكلمين " .
قال
عبد الله المرائي في كتاب الفتح المبين في
طبقات الأصوليين : " كان أبو منصور قوي
الحجة ، فحماً في الخصومة ، دافع عن عقائد
المسلمين ، ورد شبهات الملحدين .. " ( 1/193 ، 194
) . وقال عنه الشيخ أبو الحسن الندوي في كتاب
رجال الفكر والدعوة " جهبذ من جهابذة الفكر
الإنساني ، امتاز بالذكاء والنبوغ وحذق
الفنون العلمية المختلفة " بل كان يرجحه
على أبي الحسن الأشعري في كتاب تاريخ الدعوة
والعزيمة ( 1/114-115) .
-
عاصر
أبا الحسن الأشعري ، وعاش الملحمة بين أهل
الحديث وأهل الكلام من المعتزلة وغيرهم .
فكانت له جولاته ضد المعتزلة وغيرهم ، ولكن
بمنهاج غير منهاج الأشعري ، وإن التقيا في
كثير من النتائج غير أن المصادر التاريخية لا
تثبت لهما لقاء أو مراسلات بينهما ، أو اطلاع
على كتب بعضها .
-
توفي
رحمه الله تعالى عام 333هـ ودفن بسمرقند ، وله
مؤلفات كثيرة : في أصول الفقه والتفسير . ومن
أشهرها : تأويلات أهل السنة أو تأويلات القرآن
وفيه نصوص القرآن الكريم ، ولا سيما آيات
الصفات ، فأولها تأويلات جهمية . و من أشهر
كتبه في علم الكلام كتاب التوحيد وفيه قرر
نظرياته الكلامية ، وبين معتقده في أهم
المسائل الاعتقادية ، ويقصد بالتوحيد : توحيد
الخالقية والربوبية ، وشيء من توحيد الأسماء
والصفات ، ولكن على طريقة الجمهمية بتعطيل
كثير من الصفات بحجة التنزيه ونفي التشبيه ؛
مخالفاً طريقة السلف الصالح . كما ينسب إليه
شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة ، وله
في الردود على المعتزلة رد الأصول الخمسة
وأيضاً في الرد على الروافض رد كتاب الأمامة
لبعض الروافض ، وفي الرد على القرامطة الرد
على فروع القرامطة .
·
مرحلة التكوين : [
333-500هـ ] : وهي مرحلة تلامذة الماتريدي ومن
تأثر به من بعده ، وفيه أصبحت فرقة كلامية
ظهرت أولاً في سمرقند ، وعملت على نشر أفكار
شيخهم وإمامهم ، ودافعوا عنها ، وصنفوا
التصانيف مبتعين مذهب الإمام أبي حنيفة في
الفروع ( الأحكام ) ، فراجت العقيدة
الماتريدية في تلك البلاد أكثر من غيرها . ومن
أشهر أصحاب هذه المرحلة: أبو القاسم إسحاق بن
محمد بن إسماعيل الحكيم السمرقندي (342هـ) عرف
بأبي القاسم الحكيم لكثرة حكمه ومواعظه ،
وأبو محمد عبد الكريم بن موسى بن عيسى البزدوي
(390هـ).
·
ثم
تلى ذلك مرحلة أخرى تعتبر امتداد للمرحلة
السابقة . ومن أهم وأبرز
شخصياتها :
-
أبو اليسر البزدوي
[421-493هـ] هو محمد بن محمد بن الحسين بن عبد
الكريم والبزدوي نسبة إلى بزدوة ويقال بزدة ،
ولقب بالقاضي الصدر ، وهو شيخ الحنفية بعد
أخيه الكبير علي البزودي ، ولد عام (421هـ) .
-
تلقى
العلم على يد أبيه ، الذي أخذه عن جده عبد
الكريم تلميذ أبي منصور الماتريدي ، قرأ كتب
الفلاسفة أمثال الكندي ، وغيره وكذلك كتب
المعتزلة أمثال الجباني ، والكعبي ، والنظام
، وغيرهم ، وقال فيها : " لا يجوز إمساك تلك
الكتب والنظر فيها ؛ لكي لا تحدث الشكوك ،
وتوهن الاعتقاد ". ولا يرى نسبة الممسك إلى
البدعة . كما اطلع على كتب الأشعري ، وتعمق
فيها ، وقال بجواز النظر فيها بعد معرفة أوجه
الخطأ فيها ، كما اطلع على كتابي التأويلات ،
والتوحيد للماتريدي فوجد في كتاب التوحيد
قليل انغلاق وتطويل ، وفي ترتيبه نوع تعسير ،
فعمد إلى إعادة ترتيبه وتبسيطه مع ذكر بعض
الإضافات عليه في كتاب أصول الدين .
-
أخذ
عن الشيخ أبو اليسر البزدوي جم غفير من
التلاميذ ؛ ومن أشهرهم : والده القاضي أبو
المعاني أحمد ، ونجم الدين عمر بن محمد النسفي
صاحب العقائد النسفية ، وغيرهما .
-
توفي
رحمه الله تعالى في بخارى في التاسع من رجب
سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة .
·
مرحلة التأليف والتأصيل للعقيدة
الماتريدية :
[ 500-700هـ ] : وامتازت بكثرة التأليف وجمع الأدلة
للعقيدة الماتريدية ؛ والذا فهي أكبر الأدوار
السابقة في تأسيس العقيدة ، ومن أهم أعيان هذه
المرحلة :
-
أبو المعين النسفي
[438-508هـ] : وهو ميمون بن محمد بن معتمد النسفي
المكحولي ، والنسفي نسبة إلى نسف وهي مدينه
كبيرة بين جيحون وسمرقند ، والمكحولي نسبة
إلى جده الأكبر ، ولكن نسبته إلى بلده غلبت
نسبته إلى جده ، وله ألقاب عدة أشهرها : سيف
الحق والدين .
-
ويعد
من أشهر علماء الماتريدية ، إلا أن من ترجم له
لم يذكر أحداً من شيوخه ، أو كيفية تلقيه
العلم ، يقول الدكتور فتح الله خليف : "
ويعتبر الإمام أبو العين النسفي من أكبر من
قام بنصرة مذهب الماتريدي ، وهو بين
الماتريدية كالباقلاني والغزالي بين
الأشاعرة ، ومن أهم كتبه تبصرة الأدلة ، ويعد
من أهم المراجع في معرفة عقيدة الماتريدية
بعد كتاب التوحيد للماتريدي ، بل هو أوسع مرجع
في عقيدة الماتريدية على الإطلاق ، وقد
اختصره في كتابه التمهيد ، وله أيضاً كتاب بحر
الكلام ، وهو من الكتب المختصرة التي تناول
فيها أهم القضايا الكلامية ".
-
توفي
رحمه الله تعالى في الخامس والعشرين من ذي
الحجة سنة ثمان وخمسمائة ’ وله سبعون سنة .
-
نجم الدين عمر النسفي
[462-537هـ] : هو أبو حفص نجم الدين عمر بن محمد ابن
اأحمد بن إسماعيل … بن لقمان الحنفي النسفي
السمرقندي ، وله ألقاب أشهرها : نجم الدين ،
ولد في نسف سنة إحدى أو اثنين وستين وأربعمائة
.
-
كان
من المكثرين من الشيوخ ، فقد بلغ عدد شيوخه
خمسمائة رجلاً ومن أشهرهم : أبو اليسر البزدوي
، وعبد الله بن علي بن عيسى النسفي . وأخذ عنه
خلق كثير ، وله مؤلفات بلغت المائة منها: مجمع
العلوم ، التيسير في تفسير القرآن . النجاح في
شرح كتاب أخبار الصحاح في شرح البخاري وكتاب
العقائد المشهورة بالعقائد النسفية ، والذي
يعد من أهم المتون في العقيدة الماتريدية وهو
عبارة عن مختصر لتبصرة الأدلة لأبي المعين
النسفي قال فيه السمعاني في ترجمة له : " كان
إماماً فاضلاً متقناً ، صنف في كل نوع من
التفسير والحديث .. فلما وافيت سمرقند استعرت
عدة كتب من تصانيفه ، فرأيت فيها أوهاماً
كثيرة خارجة عن الحد ، فعرفت أنه كان ممن أحب
الحديث ، ولم يرزق فهمه ".
-
توفي
رحمه الله تعالى بسمرقند ليلة الخميس ثاني
عشر من جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين
وخمسمائة .
* مرحلة التوسع والانتشار :[700-1300هـ]
: وتعد من أهم مراحل الماتريدية حيث بلغت أوج
توسعها وانتشارها في هذه المرحلة ؛ وما ذلك
إلا لمناصرة سلاطين الدولة العثمانية ، فكان
سلطان الماتريدية يتسع حسب اتساع سلطان
الدولة العثمانية ، فانتشرت في : شرق الأرض
وغربها ، وبلاد العرب ، والعجم ، والهند
والترك ، وفارس ، والروم .
وبرز
فيها أمثال : الكمال بن الهمام
صاحب المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة
، والذي ما زال يدرس في بعض الجامعات
الإسلامية . وفي هذا الدور كثرت فيها تأليف
الكتب الكلامية من : المتون ، والشروح على
الشروح ، والحواشي على شروح .
وهناك
مدراس مازالت تتبنى الدعوة للماتريدية في شبه
القارة الهندية وتتمثل في :
-
مدرسة ديوبند و الندويه [ 1283هـ-
…] وفيها كثر الاهتمام بالتأليف في علم
الحديث وشروحه ، فالديوبندية أئمة في العلوم
النقلية والعقلية ؛ وإلا أنهم متصوفة محضة ،
وعند كثير منهم بدع قبورية ، كما يشهد عليهم
كتابهم المهند على المفند لـ الشيخ خليل أحمد
السهارنفوري أحد أئمتهم ، وهو من أهم كتب
الديوبندية في العقيدة ، ولا تختلف عنها
المدرسة الندوية في كونها ماتريدية العقيدة .
-
مدرسة البريلوي [1272هـ
-…] نسبة إلى زعيمهم أحمد رضا خان الأفغاني
الحنفي الماتريدي الصوفي الملقب بعبد
المصطفى [1340هـ] وفي هذا الدور يظهر الإشراك
الصريح ، والدعوة إلى عبادة القبور ، وشدة
العداوة للديوبندية ، وتكفيرهم فضلاً عن
تكفير أهل السنة .
-
مدرسة الكوثري [ 1296هـ
- …] و تنسب إلا شيخ محمد زاهد الكوثري الجركسي
الحنفي الماتريدي (1371هـ) ويظهر فيها شدة الطعن
في أئمة الإسلام ولعنهم ، وجعلهم مجسمة
ومشبهة ، وجعل كتب السلف ككتب : التوحيد ،
الإبانة ، الشريعة ، والصفات ، والعلو ،
وغيرها كتب أئمة السنة كتب وثنية وتجسيم
وتشبيه ، كما يظهر فيها أيضاً شدة الدعوة إلى
البدع الشركية وللتصوف من تعظيم القبور
والمقبورين تحت ستار التوسل . انظر تعليقات
الكوثري على كتاب الأسماء والصفات للبيهقي ،
وكتاب مقالات الكوثري .
أهم الأفكار والمعتقدات :
·
من
حيث مصدر التلقي : قسم الماتريدية أصول الدين
حسب التلقي إلى :
-
الإلهيات [ العقليات ] :
وهي ما يستقل العقل بإثباتها والنقل تابع له ،
وتشمل أبواب التوحيد والصفات .
-
الشرعيات [ السمعيات ] :
وهي الأمور التي يجزم العقل بإمكانها ثبوتاً
ونفياً ، ولا طريق للعقل إليها مثل : النبوات ،
و عذاب القبر ، وأمور الآخرة ، علماُ بأن
بعضهم جعل النبوات من قبيل العقليات .
ولا يخفى ما في هذا من مخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة حيث أن القرآن والسنة وإجماع الصحابة هم مصادر التلقي عندهم ، فضلاُ عن مخالفتهم في بدعة تقسيم أصول الدين إلى : عقليات وسمعيات ، والتي قامت على فكرة باطلة أصلها الفلاسفة من : أن نصوص الدين متعارضة مع العقل ، فعملوا على التوسط بين العقل والنقل ، مما اضطرهم إلى إقحام العقل في غير مجالات بحثه ؛ فخرجوا بأحكام باطلة تصطدم مع الشرع ألجأتهم إلى التأويل والتفويض ، بينما لا منافاة عند أهل السنة والجماعة بين العقل والسليم الصريح والنقل الصحيح .
ولا يخفى ما في هذا من مخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة حيث أن القرآن والسنة وإجماع الصحابة هم مصادر التلقي عندهم ، فضلاُ عن مخالفتهم في بدعة تقسيم أصول الدين إلى : عقليات وسمعيات ، والتي قامت على فكرة باطلة أصلها الفلاسفة من : أن نصوص الدين متعارضة مع العقل ، فعملوا على التوسط بين العقل والنقل ، مما اضطرهم إلى إقحام العقل في غير مجالات بحثه ؛ فخرجوا بأحكام باطلة تصطدم مع الشرع ألجأتهم إلى التأويل والتفويض ، بينما لا منافاة عند أهل السنة والجماعة بين العقل والسليم الصريح والنقل الصحيح .
·
بناء
على التقسيم السابق فإن موقفهم من الأدلة
النقلية في مسائل الإلهيات [ العقليات ]
كالتالي :
-
إن كان من نصوص القرآن الكريم والسنة
المتواترة مما هو قطعي الثبوت قطعي الدلالة
عندهم ، أي مقبولاً عقلاُ ، خالياً من التعارض
مع عقولهم ؛ فإنهم يحتجون به في تقرير العقيدة
. وأما إن كان قطعي الثبوت ظني الدلالة عندهم
أي : مخالفاً لعقولهم ، فإنه لا يفيد اليقين
،ولذلك تؤول الأدلة النقلية بما يوافق الأدلة
العقلية ، أو تفويض معانيها إلى الله عز وجل .
وهم في ذلك مضطربون ،فليست عندهم قاعدة
مستقيمة في التأويل والتفويض ؛ فمنهم من رجح
التأويل على التعويض ، ومنهم من رجح التفويض ،
ومنهم من أجاز الأمرين ، وبعضهم رأى أن
التأويل لأهل النظر والاستدلال ، والتفويض
أليق للعوام .
والملاحظ
أن القول بالتأويل لم يكن على عهد النبي صلى
الله عليه وسلم ولا أصحاب القرون المفضلة ،
وإنما هي بدعة دخلت على الجهمية والمعتزلة من
اليهود والنصارى ، وإلى التأويل يرجع جميع ما
أحدث في الإسلام من بدع فرقت شمل الأمة ، وهو
أشر من التعطيل ؛ حيث يستلزم التشبيه ،
والتعطيل ، واتهاماً للرسول صلى الله عليه
وسلم بالجهل ، أو كتمان بيان ما أنزل الله .
وأما
القول بالتفويض فهو من أشر أقوال أهل البدع
لمناقضته ومعارضته نصوص التدبر للقرآن ،
واستلزام تجهيل الأنبياء والمرسلين برب
العالمين .
-
وإن
كان من أحاديث الآحاد فإنها عندهم تفيد الظن ،
ولا تفيد العلم اليقيني ، ولا يعمل بها في
الأحكام الشرعية مطلقاً ، بل وفق قواعدهم
وأصولهم التي قرروها ، وأما في العقائد فإنه
لا يحتج بها ، ولا تثبت بها عقيدة ، وإن اشتملت
على جميع الشروط المذكورة في أصول الفقه ، وإن
كانت ظاهرة فظاهرها غير مراد ، وهذا موقف
الماتريدية قديماً وحديثاً ؛ حتى أن الكوثري
ومن وافقه من الديوبندية طعنوا في كتب السنة
بما فيها الصحيحين ، وفي عقيدة أئمة السنة مثل
: حماد بن سلمة راوي أحاديث الصفات ، والإمام
الدارمي عثمان بن سعيد صاحب السنن . وهذا
مخالف لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث
كان يبعث الرسل إلى الملوك والرؤساء فرادى
يدعونهم إلى الإسلام . وكذلك فإن تقسيم ما ورد
عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى متواتر وآحاد
لم يكن معروفاً في عصر الصحابة والتابعين .
-
كما
رتبوا على ذلك وجوب معرفة الله تعالى بالعقل
قبل ورود السمع ، واعتبروه أول واجب على
المكلف ، ولا يعذر بتركه ذلك ، بل يعاقب عليه
ولو قبل بعثة الأنبياء والرسل . وبهذا وافقوا
قول المعتزلة : وهو قول ظاهر البطلان ، تعارضه
الأدلة من الكتاب والسنة التي تبين أن معرفة
الله تعالى يوجبها العقل ،ويذم من يتركها ،
لكن العقاب على الترك لا يكون إلا بعد ورود
الشرع ، يقول الله تعالى ( وما
كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ) [ سورة
الإسراء الآية 15] وأن أول واجب على المكلف ،
وبه يكون مسلماً : شهادة أن لا إله إلا الله
وأن محمداً رسول الله ، والبراءة من كل دين
يخالف دين الإسلام على الإجمال ، ولهذا لما
أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن
جبل إلى اليمن لم يأمره بغير ذلك . وكذلك
الأنبياء لم يدعوا أقوامهم إلا بقول (
اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) [ سورة
الأعراف الآية 59] .
-
وقالوا
أيضاً بالتحسين والتقبيح العقليين ،حيث يدرك
العقل حسن الأشياء وقبحها ، إلا أنهم اختلفوا
في حكم الله تعالى بمجرد إدراك العقل للحسن
والقبح . فمنهم من قال : إن العباد يعاقبون على
أفعالهم القبيحة ولو لم يبعث إليهم رسول ؛ كما
سبق ، ومنهم من قال بعكس ذلك .
-
وذهب
كذلك الماتريدية كغيرها من الفرق الكلامية
إلى أن المجاز واقع في اللغة والقرآن والحديث
؛ ويقصدون بالمجاز بأنه اللفظ المستعمل في
غير ما وضع له ، وهو قسيم الحقيقة عندهم .
ولذلك اعتمدوا عليه في تأويل النصوص دفعاً -
في ظنهم - لشبه التجسيم والتشبيه . وهو بهذا
المعنى : قول مبتدع ،
محدث لا أصل له في اللغة ولا في الشرع . ولم
يتكلم فيه أئمة اللغة : كالخليل بن أحمد ،
وسيبويه فضلاً عن أئمة الفقهاء والأصوليين
المتقدمين .
-
مفهوم
التوحيد عند الماتريدية هو : إثبات أن الله
تعالى واحد في ذاته ، لا قسيم له ، ولا جزء له ،
واحد في صفاته ، لا شبيه له ، واحد في أفعاله ،
لا يشاركه أحد في إيجاد المصنوعات ، ولذلك
بذلوا غاية جهدهم في إثبات هذا النوع من
التوحيد باعتبار أن الإله عندهم هو : القادر
على الاختراع . مستخدمين في ذلك الأدلة
والمقاييس العقلية والفلسفية التي أحدثها
المعتزلة والجهمية ، مثل دليل حدوث الجواهر
والأعراض ، وهي أدلة طعن فيها السلف والأئمة
وأتباعهم وأساطين الكلام والفلسفة وبينوا أن
الطرق التي دل عليها القرآن أصح . بين ذلك أبو
الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر ، وابن
رشد الحفيد في مناهج الأدلة . وشيخ الإسلام
ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل . وأيضاً
خالفوا أهل السنة والجماعة بتسويتهم بين
توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ، فالإله عند
أهل السنة : المألوه المعبود الذي يستحق
العبادة وحده لا شريك له . وما أرسلت الرسل إلا
لتقرير ذلك الأمر ، ودعوة البشرية إلى توحيد
الله تعالى في ربوبيته ، وألوهيته ، وأسمائه
وصفاته .
-
أثبتوا
لله تعالى أسماءه الحسنى ، وقالوا : لا يسمى
الله تعالى إلا بما سمى به نفسه ، وجاء به
الشرع . في ذلك وافقوا أهل السنة والجماعة في
القول بالتوقيف في أسمائه تعالى إلا أنهم
خالفوهم فيما
أدخلوه في أسمائه تعالى : كالصانع ، القديم
،الذات … حيث لم يفرقوا بين باب الإخبار عن
الله تعالى وباب التسمية .
-
وقالوا
بإثبات ثماني صفات لله تعالى فقط ، على خلاف
بينهم وهي : الحياة ، القدرة ، العلم ، الإرادة
، السمع ، البصر ، الكلام ، التكوين . وعلى أن
جميع الأفعال المتعدية ترجع إلى التكوين ،
أما ما عدا ذلك من الصفات التي دل عليها
الكتاب والسنة [ الصفات الخبرية ] من صفات
ذاتية ، أو صفات فعلية ، فإنها لا تدخل في نطاق
العقل ، ولذلك قالوا بنفيها جميعاً . أما أهل
السنة والجماعة فهم كما يعتقدون في الأسماء
يعتقدون في الصفات وأنها جميعاً توقيفية ،
ويؤمنون بها " بإثبات بلا تشبيه ، وتنزيه
بلا تعطيل ، مع تفويض الكيفية وإثبات المعنى
اللائق بالله - تعالى - لقوله تعالى : (
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) .
-
قولهم
بأن القرآن الكريم ليس بكلام الله تعالى على
الحقيقة ، وإنما هو كلام الله تعالى النفسي ،
لا يسمع وإنما يسمع ما هو عبارة عنه ، ولذلك
فإن الكتب بما فيها القرآن مخلوق ؛ وهو قول
مبتدع محدث لم يدل عليه الكتاب ولا السنة ،
ولم يرد عن سلف الأمة . وأول من ابتدعه ابن
كلاب . فالله تعالى يتكلم إذا شاء متى شاء ،
ولا يزال يتكلم كما كلم موسى ، ويكلم عباده
يوم القيامة ، والقرآن كلام الله تعالى على
الحقيقة ، غير مخلوق . وكذلك التوراة والإنجيل
والزبور . وهذا ما عليه أهل السنة والجماعة من
سلف الأمة الصالح ومن تبعهم بإحسان .
-
تقول
الماتريدية في الإيمان أنه التصديق بالقلب
فقط ، وأضاف بعضهم الإقرار باللسان ، ومنعوا
زيادته ونقصانه ،وقالوا بتحريم الاستثناء
فيه ، وأن الإسلام والإيمان مترادفان ، لا فرق
بينهما ، فوافقوا المرجئة في ذلك ، وخالفوا
أهل السنة والجماعة ، حيث إن الإيمان عندهم :
اعتقاد بالجنان وقول باللسان ، و عمل
بالأركان . يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية .
ويجوز الاستثناء فيه [ والمقصود عدم تزكية
النفس ] والإيمان والإسلام متلازمان ، إذا
اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا .
·
وافقت
الماتريدية أهل السنة والجماعة في الإيمان
بالسمعيات مثل : أحوال البرزخ وأمور الآخرة من
: الحشر ، والنشر ، والميزان
، والصراط ، والشفاعة ، والجنة ، والنار ؛
لأنهم جعلوا مصدر التلقي فيها السمع ، لأنها
من الأمور الممكنة التي أخبر بها الصادق صلى
الله عليه وسلم وأيدتها نصوص الكتاب والسنة .
-
وبالتالي
فإنهم أثبتوا رؤية الله تعالى في الآخرة ؛
ولكن مع نفي الجهة والمقابلة . وهذا قول
متناقض حيث أثبتوا ما لا يمكن رؤيته ، ولا
بخفى مخالفته لما عليه أهل السنة والجماعة .
·
كما
وافقت الماتريدية أهل السنة والجماعة في
القول في الصحابة على ترتيب خلافتهم ، وأن ما
وقع بينهم كان خطاً عن اجتهاد منهم ؛ ولذا يجب
الكف عن الطعن فيهم ، لأن الطعن فيهم إما كفر ،
أو بدعة ، أو فسق . كما يرون أن الخلافة في قريش
، وتجوز الصلاة خلف كل بر وفاجر ، ولا يجوز
الخروج على الإمام الجائر .
·
وأيضاً
وافقوا أهل السنة والجماعة في القول : بالقدر
، والقدرة ، والاستطاعة ، على أن كل ما يقع في
الكون بمشيئة الله تعالى وإرادته ، وأن أفعال
العباد من خير وشر من خلق الله تعالى وأن
للعباد أفعالاً اختيارية ، يثابون عليها ،
ويعاقبون عليها ، وأن العبد مختار في الأفعال
التكليفية غير مجبور على فعلها .
قالت
الماتريدية بعدم جواز التكليف بما لا يطاق
موافقة المعتزلة في ذلك ،والذي عليه أهل
السنة والجماعة هو : التفضيل ، وعدم إطلاق
القول بالجواز أو بالمنع .
الجذور الفكرية والعقائدية :
يتبين
للباحث أن عقيدة الماتريدية فيها حق وباطل ؛
فالحق أخذوه عن أهل السنة من الحنفية السلفية
، وغيرهم ؛ لأن المستقرىء للتاريخ يجد أن
الحنفية بعد الإمام أبي حنيفة رحمه الله
تفرقوا فرقاً شتى في وقت مبكر ، ولم يسر على
سيرة الإمام أبي حنيفة وصاحبيه إلا من وفقه
الله عز وجل . وقد كانت الغلبة في ذلك للأحناف
المنتسبين للفرق المبتدعة من : جهمية ،
ومعتزلة . ولأن المصادر التاريخية لم تشر إلى
كيفية تلقي أبي منصور الماتريدي العلم أو من
تأثر بهم من العلماء ، نستطيع ترجيع الآتي :
_
تأثر أبو منصور الماتريدي مباشرة أو بواسطة
شيوخه بعقائد الجهمية من الإرجاء والتعطيل ؛
وكذلك المعتزلة والفلاسفة في نفي بعض الصفات
وتحريف نصوصها ، ونفي العلو والصفات الخبرية
ظناً منه أنها عقيدة أهل السنة .
-
تأثر بابن كلاب ( 240هـ ) أول من ابتدع القول
بالكلام النفسي لله عز وجل في بدعته هذه ، وأن
لم يثبت لهما لقاء ، حيث توفي ابن كلاب قبل
مولده ، بل صرح شيخ الإسلام ابن تيمية أن أبا
منصور الماتريدي تابع ابن كلاب في عدة مسائل :
الصفات ، وما يتعلق بها ، كمسألة القرآن هل
سبحانه يتكلم بمشيئته وقدرته ؟ ومسألة
الاستثناء في الإيمان . ( مجموع الفتاوي 7/362 ) .
الانتشار ومواقع النفوذ :
انتشرت
الماتريدية ، وكثر أتباعها في بلاد الهند وما
جاورها من البلاد الشرقية : كالصين ،
وبنغلاديش ، وباكستان ، وأفغانستان . كما
انتشرت في بلاد تركيا ، والروم ، وفارس ،
وبلاد ما وراء النهر ، والمغرب حسب انتشار
الحنفية وسلطانهم ، وما زال لهم وجود قوي في
هذه البلاد ، وذلك لأسباب كثيرة منها :
1-
المناصرة
والتأييد من الملوك والسلاطين لعلماء المذهب
، وبخاصة سلاطين الدولة العثمانية .
2-
للمدارس
الماتريدية دور كبير في نشر العقيدة
الماتريدية ، وأوضح مثال على ذلك : المدارس
الديوبندية بالهند وباكستان وغيرها ؛ حيث لا
زال يدرس فيها كتب الماتريدية في العقيدة على
أنها عقيدة أهل السنة والجماعة .
3-
النشاط
البالغ في ميدان التصنيف في علم الكلام ،
وردهم على الفرق المبتدعة الأخرى ، مثل
الجهمية الأولي والمعتزلة ، والروافض .
4-
انتسابهم
للإمام أبي حنيفة ومذهبه في الفروع .
يتضح مما سبق :
أن
الماتريدية فرقة كلامية نشأت بسمرقند في
القرن الرابع الهجري ، وتنسب إلى أبي
منصور الماتريدي ، مستخدمة الأدلة
والبراهين العقلية والفلسفية في مواجهة
خصومها من المعتزلة ، والجهمية وغيرهما من
الفرق الباطنية ، في محاولة لم يحالفها
التوفيق للتوسط بين مذهب أهل السنة والجماعة
في الاعتقاد ومذاهب المعتزلة والجهمية وأهل
الكلام ، فأعلوا شأن العقل مقابل النقل ،
وقالوا ببدعة تقسيم أصول الدين إلى عقليات
وسمعيات مما أضطرهم إلى القول بالتأويل
والتفويض ، وكذا القول بالمجاز في القرآن
الكريم ، والسنة النبوية ، وعدم الأخذ
بأحاديث الآحاد ، وبالقول بخلق الكتب ومنها :
القرآن الكريم ، وعلى أن القرآن الكريم كلام
الله تعالى النفسي . مما قربهم إلى المعتزلة
والجهمية في هذا الباب ، وإلى المرجئة في
أبواب الإيمان ، وأهل السنة والجماعة في
مسائل : القدر ، وأمور الآخرة وأحوال البرزخ ،
وفي القول في الإمامة ، والصحابة رضي الله
عنهم . ولما كان مفهومهم للتوحيد أنه يقتصر
على : توحيد الخالقية ، والربوبية ، مما مكن
التصوف الفلسفي بالتغلغل في أوساطهم ، فغلب
على كبار منتسبيهم وقوي بقوة نفوذ وانتشار
المذهب ؛ ولوجود أكثر من دولة تحميه وتؤيده
مثل : الدولة العثمانية ؛ فضلاً عن وجود
جامعات ومدارس مشهورة تعمل على نشره ، وكان
لانتسابهم لمذهب الإمام أبي حنيفة في الفروع
أثره البالغ في انتشار المذهب الماتريدي إلى
اليوم . ومع هذا فإن للماتريدية خدمات جليلة
في الرد على : المعتزلة والباطنية والفلاسفة
الملحدين والروافض ، ولهم جهود مشكورة في
خدمة كتب الحديث .
0 التعليقات:
إرسال تعليق