1ــ: التَّقِيَّةُ: ۞
اسْمُ مَصْدَرٍ مِنَ الاتِّقَاءِ ، يُقَالُ : اتَّقَى الرَّجُلُ الشَّيْءَ يَتَّقِيهِ ، إِذَا اتَّخَذَ سَاتِرًا يَحْفَظُهُ مِنْ ضَرَرِهِ ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ : " اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ " (1) . وَأَصْلُهُ مِنْ وَقَى الشَّيْءَ ، يَقِيهِ ، إِذَا صَانَهُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا } (2) أَيْ حَمَاهُ مِنْهُمْ فَلَمْ يَضُرَّهُ مَكْرُهُمْ . وَيُقَالُ فِي الْفِعْلِ أَيْضًا : تَقَاهُ يَتَّقِيهِ . وَالتَّاءُ هُنَا مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْوَاوِ .
وَالتُّقَاةُ وَالتَّقِيَّةُ وَالتَّقْوَى وَالتُّقَى وَالاتِّقَاءُ ، كُلُّهَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ فِي اسْتِعْمَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ (3) .
أَمَّا فِي اصْطِلاحِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّ التَّقْوَى وَالتُّقَى خُصَّا بِاتِّقَاءِ الْعَبْدِ لِلَّهِ تَعَالَى بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ وَالْخَوْفِ مِنَ ارْتِكَابِ مَا لا يَرْضَاهُ ، لأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَقِي مِنْ غَضَبِهِ وَعَذَابِهِ .
وَأَمَّا التُّقَاةُ وَالتَّقِيَّةُ فَقَدْ خُصَّتَا فِي الاصْطِلاحِ بِاتِّقَاءِ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا .
وَأَصْلُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } (4) .
وَقَدْ عَرَّفَهَا السَّرَخْسِيُّ بِقَوْلِهِ : التَّقِيَّةُ أَنْ يَقِيَ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ بِمَا يُظْهِرُهُ وَإِنْ كَانَ يُضْمِرُ خِلافَهُ (5) .
وَعَرَّفَهَا ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ : التَّقِيَّةُ الْحَذَرُ مِنْ إِظْهَارِ مَا فِي النَّفْسِ مِنْ مُعْتَقَدٍ وَغَيْرِهِ لِلْغَيْرِ (6) .
وَالتَّعْرِيفُ الأَوَّلُ أَشْمَلُ ، لأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ التَّقِيَّةُ بِالْفِعْلِ إِضَافَةً إِلَى التَّقِيَّةِ بِالْقَوْلِ وَالتَّقِيَّةِ فِي الْعَمَلِ كَمَا هِيَ فِي الاعْتِقَادِ .
2ــ: الْمُدَارَاةُ : ۞
الْمُدَارَاةُ مُلايَنَةُ النَّاسِ وَمُعَاشَرَتُهُمْ بِالْحُسْنَى مِنْ غَيْرِ ثَلَمٍ فِي الدِّينِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ (7) وَالإِغْضَاءُ عَنْ مُخَالَفَتِهِمْ فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ . وَأَصْلُهَا " الْمُدَارَأَةُ " بِالْهَمْزِ ، مِنَ الدَّرْءِ وَهُوَ الدَّفْعُ ، وَالْمُدَارَاةُ مَشْرُوعَةٌ ، وَذَلِكَ لأَنَّ وِدَادَ النَّاسِ لا يُسْتَجْلَبُ إِلا بِمُسَاعَدَتِهِمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ . وَالْبَشَرُ قَدْ رُكِّبَ فِيهِمْ أَهْوَاءٌ مُتَبَايِنَةٌ ، وَطِبَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ ، وَيَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ تَرْكُ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ ، فَلَيْسَ إِلَى صَفْوِ وِدَادِهِمْ سَبِيلٌ إِلا بِمُعَاشَرَتِهِمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِرَأْيِكَ وَهَوَاكَ (8) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُدَارَاةِ وَالتَّقِيَّةِ :
أَنَّ التَّقِيَّةَ غَالِبًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، وَأَمَّا الْمُدَارَاةُ فَهِيَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَجَلْبِ النَّفْعِ .
3ــ: الْمُدَاهَنَةُ : ۞
۞ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ : مَتَى مَا تَخَلَّقَ الْمَرْءُ بِخُلُقٍ يَشُوبُهُ بَعْضُ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ فَتِلْكَ هِيَ الْمُدَاهَنَةُ (9) . وقَوْله تَعَالَى : { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } (10) فَسَّرَهُ الْفَرَّاءُ ، كَمَا فِي اللِّسَانِ بِقَوْلِهِ : وَدُّوا لَوْ تَلِينَ فِي دِينِكَ فَيَلِينُونَ . وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ : أَيْ : وَدُّوا لَوْ تُصَانِعُهُمْ فِي الدِّينِ فَيُصَانِعُوكَ . وَهَذَا لَيْسَ بِمُخَالِفٍ لِمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ حِبَّانَ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَأْمُورًا بِالصَّدْعِ بِالدَّعْوَةِ وَعَدَمِ الْمُصَانَعَةِ فِي إِظْهَارِ الْحَقِّ وَعَيْبِ الأَصْنَامِ وَالآلِهَةِ الَّتِي اتَّخَذُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَكَانَ تَلْيِينُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْمَيْدَانِ مُدَاهَنَةً لا يَرْضَاهَا اللَّهُ تَعَالَى لأَنَّ فِيهَا تَرْكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْجَهْرِ بِالدَّعْوَةِ .
۞ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُدَاهَنَةِ وَالتَّقِيَّةِ : أَنَّ التَّقِيَّةَ لا تَحِلُّ إِلا لِدَفْعِ الضَّرَرِ ، أَمَّا الْمُدَاهَنَةُ فَلا تَحِلُّ أَصْلا ، لأَنَّهَا اللِّينُ فِي الدِّينِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ شَرْعًا
4ـــ:النِّفَاقُ : ۞
النِّفَاقُ هُوَ أَنْ يُظْهِرَ الإِيمَانَ وَيَسْتُرَ الْكُفْرَ ، وَقَدْ يُطْلَقُ النِّفَاقُ عَلَى الرِّيَاءِ ، قَالَ صَاحِبُ اللِّسَانِ : لأَنَّ كِلَيْهِمَا إِظْهَارُ غَيْرِ مَا فِي الْبَاطِنِ .
قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : أَسَاسُ النِّفَاقِ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ هُوَ الْكَذِبُ ، وَأَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ (11) .
۞ وَالصِّلَةُ بَيْنَ التَّقِيَّةِ وَبَيْنَ النِّفَاقِ ، أَنَّ الْمُنَافِقَ كَافِرٌ فِي قَلْبِهِ لَكِنَّهُ يُظْهِرُ بِلِسَانِهِ وَظَاهِرُ حَالِهِ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَيَعْمَلُ أَعْمَالَ الْمُؤْمِنِينَ لِيَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمُجْتَمَعِ الإِسْلامِيِّ وَلِيُحَصِّلَ الْمِيزَاتِ الَّتِي يُحَصِّلُهَا الْمُؤْمِنُ . فَهُوَ مُغَايِرٌ لِلتَّقِيَّةِ ؛ لأَنَّهَا إِظْهَارُ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهِ مَا يَأْمَنُ بِهِ مِنْ أَمَارَاتِ الْكُفْرِ أَوِ الْمَعْصِيَةِ مَعَ كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ فِي قَلْبِهِ ، وَاطْمِئْنَانِهِ بِالإِيمَانِ .
۞مَشْرُوعِيَّةُ الْعَمَلِ بِالتَّقِيَّةِ ۞
۞ يَذْهَبُ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ إِلَى أَنَّ الأَصْلَ فِي التَّقِيَّةِ هُوَ الْحَظْرُ ، وَجَوَازُهَا ضَرُورَةٌ ، فَتُبَاحُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَالتَّقِيَّةُ لا تَحِلُّ إِلا مَعَ خَوْفِ الْقَتْلِ أَوِ الْقَطْعِ أَوِ الإِيذَاءِ الْعَظِيمِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ فِيمَا نَعْلَمُ إِلا مَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَمُجَاهِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ (12) ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى ذَلِكَ لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَيْهَا فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ : { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } (13) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِهَا : نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُلاطِفُوا الْكُفَّارَ ، أَوْ يَتَّخِذُوهُمْ وَلِيجَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ، إِلا أَنْ يَكُونَ الْكُفَّارُ عَلَيْهِمْ ظَاهِرِينَ ، فَيُظْهِرُونَ لَهُمُ اللُّطْفَ وَيُخَالِفُونَهُمْ فِي الدِّينِ (14) .
۞ وَمِنَ الأَدِلَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّقِيَّةِ لِلضَّرُورَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (15) وَسَبَبُ نُزُولِ الآيَةِ " أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَخَذُوا عَمَّارًا فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ ، فَتَرَكُوهُ . فَلَمَّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَا وَرَاءَكَ ؟ قَالَ : شَرٌّ ، مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ .
قَالَ : كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ ؟ قَالَ : مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ . قَالَ : إِنْ عَادُوا فَعُدْ ، فَنَزَلَتْ { إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } (16) " .
۞ وَمِنَ الأَدِلَّةِ عَلَى جَوَازِ التَّقِيَّةِ لِلضَّرُورَةِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الْحَسَنِ ، " أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ أَخَذَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لأَحَدِهِمَا : أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . نَعَمْ . نَعَمْ . قَالَ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ وَكَانَ مُسَيْلِمَةُ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ بَنِي حَنِيفَةَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ قُرَيْشٍ - ثُمَّ دَعَا بِالآخَرِ ، فَقَالَ : أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : أَفَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ : إِنِّي أَصَمُّ . قَالَهَا ثَلاثًا ، كُلُّ ذَلِكَ يُجِيبُهُ بِمِثْلِ الأَوَّلِ . فَضَرَبَ عُنُقَهُ . فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَمَّا ذَلِكَ الْمَقْتُولُ فَقَدْ مَضَى عَلَى صِدْقِهِ وَيَقِينِهِ ، وَأَخَذَ بِفَضْلِهِ ، فَهَنِيئًا لَهُ . وَأَمَّا الآخَرُ فَقَبِلَ رُخْصَةَ اللَّهِ فَلا تَبِعَةَ عَلَيْهِ > (17)
۞ وَقَالَ الْحَسَنُ : التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (18) .
وَقَدْ نَسَبَ الْقُرْطُبِيُّ إِنْكَارَ التَّقِيَّةِ إِلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، وَنَسَبَهُ الرَّازِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ إِلَى مُجَاهِدٍ ، قَالا : " كَانَتِ التَّقِيَّةُ فِي جِدَّةِ الإِسْلامِ قَبْلَ قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ أَهْلَ الإِسْلامِ أَنْ يَتَّقُوا عَدُوَّهُمْ (19) " وَنَقَلَ السَّرَخْسِيُّ عَنْ قَوْمٍ لَمْ يُسَمِّهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْبَوْنَ التَّقِيَّةَ ، وَيَقُولُونَ : هِيَ مِنَ النِّفَاقِ (20) .
۞ التَّقِيَّةُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ ۞
۞ قَالَ السَّرَخْسِيُّ : إِنَّ هَذَا النَّوْعَ - يَعْنِي النُّطْقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ تَقِيَّةً - يَجُوزُ لِغَيْرِ الرُّسُلِ . فَأَمَّا فِي حَقِّ الْمُرْسَلِينَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - فَمَا كَانَ يَجُوزُ ذَلِكَ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى أَصْلِ الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ ، وَتَجْوِيزُ ذَلِكَ مُحَالٌ - أَيْ مَمْنُوعٌ شَرْعًا - لأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ لا يُقْطَعَ الْقَوْلُ بِمَا هُوَ شَرِيعَةٌ ، لاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ قَالَهُ تَقِيَّةً (21) . وَهُوَ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى مَا يُبَيِّنُهُ أَهْلُ الأُصُولِ مِنْ أَنَّ حُجِّيَّةَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى كَوْنِ كُلِّ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا ، إِذْ لَوْ تَطَرَّقَ إِلَى أَقْوَالِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ احْتِمَالٌ أَنَّهُ فَعَلَ أَوْ قَالَ أَشْيَاءَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ وَهِيَ حَرَامٌ ، لَكَانَ ذَلِكَ تَلْبِيسًا فِي الدِّينِ ، وَلَمَا حَصَلَتِ الثِّقَةُ بِأَقْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَفْعَالِهِ . وَكَذَلِكَ السُّكُوتُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَرَاهُ وَيَسْمَعُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِقْرَارٌ تُسْتَفَادُ مِنْهُ الأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ ، فَلَوْ كَانَ بَعْضُ سُكُوتِهِ يَكُونُ تَقِيَّةً لالْتَبَسَتِ الأَحْكَامُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاَللَّهِ حَسِيبًا } (22) ، وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } (23)
۞ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ ۞
دَلَّتِ الآيَةُ عَلَى رَدِّ قَوْلِ مَنْ قَالَ : إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ تَقِيَّةً ، وَعَلَى بُطْلانِهِ وَهُمُ الرَّافِضَةُ (24) .
قَالَ شَارِحُ مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ : مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلا بُعِثَ بَيْنَ أَعْدَائِهِ ، فَلَعَلَّهُ - أَيْ فِي حَالِ افْتِرَاضِ عَمَلِهِ بِالتَّقِيَّةِ - كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ خَوْفًا مِنْهُمْ ، وَكَذَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ بَيْنَ أَعْدَائِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلأَصْحَابِهِ قُدْرَةٌ لِدَفْعِهِمْ فَيَلْزَمُ عَلَى تَجْوِيزِ التَّقِيَّةِ لَهُ احْتِمَالُ كِتْمَانِهِ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ ، وَأَنْ لا ثِقَةَ بِالْقُرْآنِ . فَانْظُرْ إِلَى شَنَاعَةِ هَذَا الْقَوْلِ وَحَمَاقَتِهِ (25) . عَلَى أَنَّ امْتِنَاعَ التَّقِيَّةِ عَلَى الأَنْبِيَاءِ لا يَعْنِي عَدَمَ عَمَلِهِمْ بِالْمُلاطَفَةِ وَاللِّينِ وَالْمُدَارَاةِ لِلنَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ ، أَيْ مِنْ دُونِ إِخْلالٍ بِفَرِيضَةٍ أَوِ ارْتِكَابٍ لِمُحَرَّمٍ (26) .
۞ حُكْمُ الْعَمَلِ بِالتَّقِيَّةِ ۞
۞ تَقَدَّمَتْ الأَدِلَّةُ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِالتَّقِيَّةِ .
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حُكْمِهَا . فَقِيلَ : إِذَا وُجِدَ سَبَبُهَا وَتَحَقَّقَ شَرْطُهَا فَهِيَ وَاجِبَةٌ ، لأَنَّ إنْقَاذَ النَّفْسِ مِنَ الْهَلَكَةِ أَوِ الإِيذَاءِ الْعَظِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لا يَحْصُلُ إِلا بِهَا فِي تَقْدِيرِ الْمُكَلَّفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } (27)
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الأَوْلَى لِلإِنْسَانِ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ بِظَاهِرِهِ ، كَمَا هُوَ عَلَيْهِ بِبَاطِنِهِ (28) .
وَقَدْ يَكُونُ الثَّبَاتُ أَفْضَلَ وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَمَثُوبَةً وَلَوْ كَانَ الْعُذْرُ قَائِمًا ، وَثَبَتَ هَذَا بِالأَدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، فَمِنَ الْكِتَابِ مَا فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ ، فَقَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى قِصَّةَ الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى عَذَابِ الْحَرِيقِ فِي الأُخْدُودِ ، وَاخْتَارُوا ذَلِكَ عَلَى أَنْ يُظْهِرُوا الرُّجُوعَ عَنْ دِينِهِمْ . وَثَنَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ الثَّبَاتِ يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ مَوْقِفِهِمْ عَلَى مَوْقِفِ الْعَمَلِ بِالتَّقِيَّةِ فِي قَضِيَّةِ إظْهَارِ الْكُفْرِ .
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى : { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } (29)
وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لا تُشْرِكْ بِاَللَّهِ شَيْئًا وَإِنْ قُتِّلْتَ وَحُرِّقْتَ " (30) وَكَذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ مُسَيْلِمَةَ ، فَقَدْ عَذَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحَابِيَّ الَّذِي وَافَقَ مُسَيْلِمَةَ (31) وَقَالَ فِيهِ : < لا تَبِعَةَ عَلَيْهِ > وَقَالَ فِي حَقِّ الَّذِي ثَبَتَ فَقُتِلَ : < مَضَى عَلَى صِدْقِهِ وَيَقِينِهِ ، وَأَخَذَ بِفَضْلِهِ ، فَهَنِيئًا لَهُ > وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى التَّفْضِيلِ .
وَاحْتَجَّ السَّرَخْسِيُّ أَيْضًا بِقِصَّةِ < خُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ لَمَّا امْتَنَعَ مِنْ مُوَافَقَةِ قُرَيْشٍ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى قَتَلُوهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ وَقَالَ : هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ > (32) .
۞ وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَابًا بِعِنْوَانِ ( بَابُ مَنِ اخْتَارَ الضَّرْبَ وَالْقَتْلَ وَالْهَوَانَ عَلَى الْكُفْرِ ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ أَنَّهُ قَالَ < شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ ، فَقُلْنَا : أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا ؟ أَلا تَدْعُو لَنَا ؟ فَقَالَ : قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ ، فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ لَهُ فِيهَا ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مِنْ دُونِ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ ، لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ " (33) . وَهُوَ وَاضِحُ الدَّلالَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ .
وَهَكَذَا كُلُّ أَمْرٍ فِيهِ إعْزَازٌ لِلدِّينِ وَإِعْلاءٌ لِكَلِمَةِ اللَّهِ وَإِظْهَارٌ لِثَبَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَبَسَالَتِهِمْ ، وَتَثْبِيتٌ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْحَقِّ ، يَكُونُ الثَّبَاتُ عَلَى الْحَقِّ وَإِظْهَارُهُ أَوْلَى مِنَ التَّقِيَّةِ ، وَهَذَا بِخِلافِ نَحْوِ الإِكْرَاهِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَحَيْثُ لا تَظْهَرُ الْمَصَالِحُ الْمَذْكُورَةُ .
۞ قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ لِلتَّقِيَّةِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً وَنَحْنُ نَذْكُرُ بَعْضَهَا :
۞ ( الْحُكْمُ الأَوَّلُ ) :
أَنَّ التَّقِيَّةَ إنَّمَا تَكُونُ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ فِي قَوْمٍ كُفَّارٍ ، وَيَخَافُ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ فَيُدَارِيهِمْ بِاللِّسَانِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ لا يُظْهِرَ الْعَدَاوَةَ بِاللِّسَانِ ، بَلْ يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُظْهِرَ الْكَلامَ الْمُوهِمَ لِلْمَحَبَّةِ وَالْمُوَالاةِ ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُضْمِرَ خِلافَهُ ، وَأَنْ يُعَرِّضَ فِي كُلِّ مَا يَقُولُ ، فَإِنَّ التَّقِيَّةَ تَأْثِيرُهَا فِي الظَّاهِرِ لا فِي أَحْوَالِ الْقُلُوبِ .
۞ ( الْحُكْمُ الثَّانِي لِلتَّقِيَّةِ ) :
أَنَّهُ لَوْ أَفْصَحَ بِالإِيمَانِ وَالْحَقِّ حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ التَّقِيَّةُ كَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ ، وَدَلِيلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي قِصَّةِ مُسَيْلِمَةَ .
۞ ( الْحُكْمُ الثَّالِثُ لِلتَّقِيَّةِ ) :
أَنَّهَا إنَّمَا تَجُوزُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِظْهَارِ الْمُوَالاةِ وَالْمُعَادَاةِ ، وَقَدْ تَجُوزُ أَيْضًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِظْهَارِ الدِّينِ فَأَمَّا مَا يَرْجِعُ ضَرَرُهُ إِلَى الْغَيْرِ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَى وَغَصْبِ الأَمْوَالِ وَالشَّهَادَةِ بِالزُّورِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ وَاطِّلاعِ الْكُفَّارِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ ، فَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ أَلْبَتَّةَ .
۞ ( الْحُكْمُ الرَّابِعُ ) :
ظَاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقِيَّةَ إنَّمَا تَحِلُّ مَعَ الْكُفَّارِ الْغَالِبِينَ إِلا أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْحَالَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا شَاكَلَتِ الْحَالَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ حَلَّتِ التَّقِيَّةُ مُحَامَاةً عَلَى النَّفْسِ .
۞ ( الْحُكْمُ الْخَامِسُ ) :
التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ لِصَوْنِ النَّفْسِ ، وَهَلْ هِيَ جَائِزَةٌ لِصَوْنِ الْمَالِ ؟
يُحْتَمَلُ أَنْ يُحْكَمَ فِيهَا بِالْجَوَازِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ " (34) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ < مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ > (35) وَلأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْمَالِ شَدِيدَةٌ وَالْمَاءُ إِذَا بِيعَ بِالْغَبْنِ سَقَطَ فَرْضُ الْوُضُوءِ ، وَجَازَ الاقْتِصَارُ عَلَى التَّيَمُّمِ دَفْعًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ نُقْصَانِ الْمَالِ ، فَكَيْفَ لا يَجُوزُ هَاهُنَا .
۞ ( الْحُكْمُ السَّادِسُ ) :
قَالَ مُجَاهِدٌ : هَذَا الْحُكْمُ كَانَ ثَابِتًا فِي أَوَّلِ الإِسْلامِ لأَجْلِ ضَعْفِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَمَّا بَعْدَ قُوَّةِ دَوْلَةِ الإِسْلامِ فَلا ، وَرَوَى عَوْفٌ عَنِ الْحَسَنِ : أَنَّهُ قَالَ التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى ، لأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الإِمْكَانِ (36) .
۞ شُرُوطُ جَوَازِ التَّقِيَّةِ ۞
۞ أ - يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ التَّقِيَّةِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ خَوْفٌ مِنْ مَكْرُوهٍ ، عَلَى مَا يُذْكَرُ تَفْصِيلُهُ بَعْدُ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ خَوْفٌ وَلا خَطَرٌ لَمْ يَجُزِ ارْتِكَابُ الْمُحَرَّمِ تَقِيَّةً ، وَذَلِكَ كَمَنْ يَفْعَلُ الْمُحَرَّمَ تَوَدُّدًا إِلَى الْفُسَّاقِ أَوْ حَيَاءً مِنْهُمْ . وَإِنْ قَالَ خِلافَ الْحَقِيقَةِ كَانَ كَاذِبًا آثِمًا ، وَكَذَا مَنْ أَثْنَى عَلَى الظَّالِمِينَ أَوْ أَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَصِدْقِهِمْ بِكَذِبِهِمْ وَحُسْنِ طَرِيقَتِهِمْ لِتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ مِنْهُمْ دُونَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ خَطَرٌ مِنْهُمْ لَوْ سَكَتَ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ كَاذِبًا آثِمًا مُشَارِكًا لَهُمْ فِي ظُلْمِهِمْ وَفِسْقِهِمْ . وَإِنْ كَانَ فِيمَا صَدَّقَهُمْ بِهِ عُدْوَانٌ عَلَى مُسْلِمٍ فَذَلِكَ أَعْظَمُ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ فَهُوَ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ " (37) .
۞ ب - قِيلَ : يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ التَّقِيَّةِ أَنْ تَكُونَ مَعَ الْكُفَّارِ الْغَالِبِينَ وَسَبَقَ قَوْلُ الرَّازِيِّ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْحَالَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا شَاكَلَتِ الْحَالَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ حَلَّتِ التَّقِيَّةُ مُحَامَاةً عَنِ النَّفْسِ (38)
۞ ج - أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ إنْ نَطَقَ بِالْكُفْرِ وَنَحْوِهِ تَقِيَّةً يُتْرَكُ بَعْدَ ذَلِكَ . وَهَذَا الاشْتِرَاطُ مَنْقُولٌ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ ، فَقَدْ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يُؤْسَرُ فَيُعْرَضُ عَلَى الْكُفْرِ وَيُكْرَهُ عَلَيْهِ ، هَلْ لَهُ أَنْ يَرْتَدَّ - أَيْ ظَاهِرًا - فَكَرِهَهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً وَقَالَ : مَا يُشْبِهُ هَذَا عِنْدِي الَّذِينَ أُنْزِلَتْ فِيهِمُ الآيَةُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُولَئِكَ كَانُوا يُرَادُونَ عَلَى الْكَلِمَةِ ثُمَّ يُتْرَكُونَ يَفْعَلُونَ مَا شَاءُوا ، وَهَؤُلاءِ يُرِيدُونَهُمْ عَلَى الإِقَامَةِ عَلَى الْكُفْرِ وَتَرْكِ دِينِهِمْ .
۞ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : وَذَلِكَ لأَنَّ الَّذِي يُكْرَهُ عَلَى كَلِمَةٍ يَقُولُهَا ثُمَّ يُخَلَّى لا ضَرَرَ فِيهَا ، وَهَذَا الْمُقِيمُ بَيْنَهُمْ يَلْتَزِمُ بِإِجَابَتِهِمْ إِلَى الْكُفْرِ الْمُقَامِ عَلَيْهِ وَاسْتِحْلالِ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ الْمَحْظُورَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً تَزَوَّجُوهَا وَاسْتَوْلَدُوهَا أَوْلادًا كُفَّارًا . وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ . وَظَاهِرُ حَالِهِمُ الْمَصِيرُ إِلَى الْكُفْرِ الْحَقِيقِيِّ وَالانْسِلاخِ مِنَ الإِسْلامِ (39) . وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ إظْهَارُ الْكُفْرِ إنْ عُلِمَ أَنَّهُ يُتْرَكُ بَعْدَ ذَلِكَ ، أَمَّا إنْ كَانَ مَآلُهُ الالْتِزَامُ بِالإِقَامَةِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْكُفَّارِ يُجْرُونَ عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْكُفْرِ وَيَمْنَعُونَهُ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَافِقَهُمْ عَلَى إظْهَارِ الْكُفْرِ .
وَحِينَئِذٍ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنْ مِثْلِ تِلْكَ الأَرْضِ إِلَى حَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ فَلَيْسَ لَهُ الإِقَامَةُ الْمَذْكُورَةُ بِعُذْرِ التَّقِيَّةِ .
۞ د - وَيُشْتَرَطُ لِجَوَازِ التَّقِيَّةِ أَنْ لا يَكُونَ لِلْمُكَلَّفِ مُخَلِّصٌ مِنَ الأَذَى إِلا بِالتَّقِيَّةِ ، وَهَذَا الْمُخَلِّصُ قَدْ يَكُونُ الْهَرَبُ مِنَ الْقَتْلِ أَوِ الْقَطْعِ أَوِ الضَّرْبِ ، وَقَدْ يَكُونُ التَّوْرِيَةُ عِنْدَ الإِكْرَاهِ عَلَى الطَّلاقِ ، وَعَدَمِ الدَّهْشَةِ (40) وَهَذَا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ ، وَقَدْ تَكُونُ الْهِجْرَةُ مِنْ بَلَدِ الْكُفْرِ إِلَى بَلَدِ الإِسْلامِ . فَإِنْ أَمْكَنَتْهُ الْهِجْرَةُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُوَالاةُ الْكُفَّارِ وَتَرْكُ إظْهَارِ دِينِهِ
إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا - (41)
قَالَ الأَلُوسِيُّ : اعْتَذَرُوا عَنْ تَقْصِيرِهِمْ فِي إظْهَارِ الإِسْلامِ وَعَنْ إدْخَالِهِمُ الْخَلَلَ فِيهِ وَعَنِ الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بِوَاجِبَاتِ الدِّينِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مَقْهُورِينَ تَحْتَ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ ، وَأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ كَارِهِينَ . فَلَمْ تَقْبَلِ الْمَلائِكَةُ عُذْرَهُمْ لأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ ، فَاسْتَحَقُّوا عَذَابَ جَهَنَّمَ لِتَرْكِهِمُ الْفَرِيضَةَ الْمَحْتُومَةَ (42) .
وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ مَنْ كَانَ مَقْهُورًا لا يَقْدِرُ عَلَى الْهِجْرَةِ حَقِيقَةً لِضَعْفِهِ أَوْ لِصِغَرِ سِنِّهِ وَسَوَاءٌ أَكَانَ رَجُلا أَمِ امْرَأَةً بِحَيْثُ يَخْشَى التَّلَفَ لَوْ خَرَجَ مُهَاجِرًا فَذَلِكَ عُذْرٌ فِي الإِقَامَةِ وَتَرْكِ الْهِجْرَةِ . وَقَدْ صَرَّحَتْ بِهَذَا الْمَعْنَى الآيَتَانِ التَّالِيَتَانِ لِلآيَةِ السَّابِقَةِ وَهُمَا إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا - (43)
۞ وَقَالَ الأَلُوسِيُّ أَيْضًا " كُلُّ مُؤْمِنٍ وَقَعَ فِي مَحَلٍّ لا يُمْكِنُ لَهُ أَنْ يُظْهِرَ دِينَهُ لِتَعَرُّضِ الْمُخَالِفِينَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ إِلَى مَحَلٍّ يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى إظْهَارِ دِينِهِ ، وَلا يَجُوزُ لَهُ أَصْلا أَنْ يَبْقَى هُنَاكَ وَيُخْفِيَ دِينَهُ وَيَتَشَبَّثَ بِعُذْرِ الاسْتِضْعَافِ ، فَإِنَّ أَرْضَ اللَّهِ وَاسِعَةٌ . نَعَمْ إنْ كَانَ مِمَّنْ لَهُ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ فِي تَرْكِ الْهِجْرَةِ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعُمْيَانِ وَالْمَحْبُوسِينَ وَاَلَّذِينَ يُخَوِّفُهُمُ الْمُخَالِفُونَ بِالْقَتْلِ أَوْ قَتْلِ الأَوْلادِ أَوِ الآبَاءِ أَوِ الأُمَّهَاتِ تَخْوِيفًا يُظَنُّ مَعَهُ إيقَاعُ مَا خُوِّفُوا بِهِ غَالِبًا ، سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْقَتْلُ بِضَرْبِ الْعُنُقِ أَوْ حَبْسِ الْقُوتِ أَوْ بِنَحْوِ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْمُكْثُ مَعَ الْمُخَالِفِ ، وَالْمُوَافَقَةُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي الْحِيلَةِ لِلْخُرُوجِ وَالْفِرَارِ بِدِينِهِ . وَإِنْ كَانَ التَّخْوِيفُ بِفَوَاتِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ بِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ الَّتِي يُمْكِنُ تَحَمُّلُهَا كَالْحَبْسِ مَعَ الْقُوتِ ، وَالضَّرْبِ الْقَلِيلِ غَيْرِ الْمُهْلِكِ فَإِنَّهُ لا يَجُوزُ لَهُ مُوَافَقَتُهُمْ (44) .
۞ هـ - وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الأَذَى الْمَخُوفُ وُقُوعُهُ مِمَّا يَشُقُّ احْتِمَالُهُ . وَالأَذَى إمَّا أَنْ يَكُونَ بِضَرَرٍ فِي نَفْسِ الإِنْسَانِ أَوْ مَالِهِ أَوْ عِرْضِهِ . أَوْ فِي الْغَيْرِ ، أَوْ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةٍ . فَالأَوَّلُ كَخَوْفِ الْقَتْلِ أَوِ الْجُرْحِ أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ أَوِ الْحَرْقِ الْمُؤْلِمِ أَوِ الضَّرْبِ الشَّدِيدِ أَوِ الْحَبْسِ مَعَ التَّجْوِيعِ وَمَنْعِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : أَوْ خَوْفِ صَفْعٍ وَلَوْ قَلِيلا لِذِي مُرُوءَةٍ عَلَى مَلأٍ مِنَ النَّاسِ (45) .
أَمَّا التَّجْوِيعُ الْيَسِيرُ وَالْحَبْسُ الْيَسِيرُ وَالضَّرْبُ الْيَسِيرُ فَلا تَحِلُّ بِهِ التَّقِيَّةُ وَلا يُجِيزُ إظْهَارَ مُوَالاةِ الْكَافِرِينَ أَوِ ارْتِكَابَ الْمُحَرَّمِ . وَرَخَّصَ الْبَعْضُ فِي التَّقِيَّةِ لأَجْلِهِ . رَوَى شُرَيْحٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ : لَيْسَ الرَّجُلُ بِأَمِينٍ عَلَى نَفْسِهِ إِذَا سُجِنَ أَوْ أُوثِقَ أَوْ عُذِّبَ .
وَفِي لَفْظٍ : أَرْبَعٌ كُلُّهُنَّ كُرْهٌ : السِّجْنُ وَالضَّرْبُ وَالْوَعِيدُ وَالْقَيْدُ .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : مَا كَلامٌ يَدْرَأُ عَنِّي سَوْطَيْنِ إِلا كُنْت مُتَكَلِّمًا بِهِ (46) .
وَأَمَّا الْعِرْضُ فَكَأَنْ يَخْشَى عَلَى حَرَمِهِ مِنَ الاعْتِدَاءِ . وَأَمَّا الْخَوْفُ عَلَى الْمَالِ فَقَدْ قَالَ الرَّازِيُّ : فِيمَا سَبَقَ بَيَانُهُ : التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ لِصَوْنِ النَّفْسِ وَهَلْ هِيَ جَائِزَةٌ لِصَوْنِ الْمَالِ ؟ يُحْتَمَلُ أَنْ يُحْكَمَ فِيهَا بِالْجَوَازِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ گ حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ ڈ (47) . وَقَوْلُهُ گ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ڈ (48) وَلأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْمَالِ شَدِيدَةٌ ، وَالْمَاءُ إِذَا بِيعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ سَقَطَ فَرْضُ الْوُضُوءِ وَجَازَ الاقْتِصَارُ عَلَى التَّيَمُّمِ دَفْعًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ نُقْصَانِ الْمَالِ ، فَكَيْفَ لا يَجُوزُ هَاهُنَا ؟ وَقَالَ مَالِكٌ إِنَّ التَّخْوِيفَ بِأَخْذِ الْمَالِ إِكْرَاهٌ وَلَوْ قَلِيلا (49) وَفِي مَذْهَبِهِ غَيْرُ ذَلِكَ .
۞ قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى : الإِكْرَاهُ يَخْتَلِفُ .
وَاسْتَحْسَنَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ عَقِيلٍ . أَيْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ الأَشْخَاصِ وَاخْتِلافِ الأَمْرِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ وَالأَمْرِ الْمَخُوفِ فَرُبَّ أَمْرٍ يَرْهَبُ مِنْهُ شَخْصٌ ضَعِيفٌ وَلا يَرْهَبُهُ شَخْصٌ قَوِيٌّ شُجَاعٌ . وَرُبَّ شَخْصٍ ذِي وَجَاهَةٍ يَضَعُ الْحَبْسَ وَلَوْ يَوْمًا مِنْ قَدْرِهِ وَجَاهِهِ فَوْقَ مَا يَضَعُ لْحَبْسُ شَهْرًا مِنْ قَدْرِ غَيْرِهِ وَرُبَّ تَهْدِيدٍ أَوْ ضَرْبٍ يَسِيرٍ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْكَذِبُ الْيَسِيرُ وَيُلْغَى بِسَبَبِهِ الإِقْرَارُ بِالْمَالِ الْيَسِيرِ ، وَلا يُسْتَبَاحُ بِهِ الإِقْرَارُ بِالْكُفْرِ أَوِ الْمَالِ الْعَظِيمِ (50) . وَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مُصْطَلَحُ ( إِكْرَاهٌ ) .
وَأَمَّا خَوْفُ فَوْتِ الْمَنْفَعَةِ فَقَدْ قَالَ فِيهِ الأَلُوسِيُّ فِي مُخْتَصَرِ التُّحْفَةِ إِنَّهُ لا يُجِيزُ التَّقِيَّةَ (51) . وَذَلِكَ كَمَنْ يَخْشَى إِنْ لَمْ يُظْهِرِ الْمُحَرَّمَ أَنْ يَفُوتَهُ تَحْصِيلُ مَنْصِبٍ أَوْ مَالٍ يَرْجُو حُصُولَهُ وَلَيْسَ بِهِ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ . وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } (52) ذَمَّهُمْ عَلَى الْكِتْمَانِ فِي مُقَابَلَةِ مَصَالِحَ عَاجِلَةٍ . أَيْ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ . لأَنَّ قَوْلَ الْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَنَحْوِهَا وَقَوْلُ الإِنْسَانِ بِلِسَانِهِ خِلافُ مَا فِي قَلْبِهِ كُلُّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَالْكَاذِبُ مَثَلا لا يَكْذِبُ إِلا لِمَصْلَحَةٍ يَرْجُوهَا مِنْ وَرَاءِ كَذِبِهِ ، وَلَوْ سُئِلَ لَقَالَ إِنَّمَا كَذَبْتُ لِغَرَضِ كَذَا وَكَذَا أُرِيدُ تَحْصِيلَهُ ، فَلَوْ جَازَ الْكَذِبُ لِتَحْصِيلِ الْمَنْفَعَةِ لَعَادَ كُلُّ كَذِبٍ مُبَاحًا وَيَكُونُ هَذَا قَلْبًا لأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَإِخْرَاجًا لَهَا عَنْ وَضْعِهَا الَّذِي وُضِعَتْ عَلَيْهِ .
۞ أَنْوَاعُ التَّقِيَّةِ ۞
۞ التَّقِيَّةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِسَبَبِ إِكْرَاهٍ بِتَهْدِيدِ الْمُسْلِمِ بِمَا يَضُرُّهُ مِنْ تَعْذِيبٍ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، إِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا طُلِبَ مِنْهُ ، وَإِمَّا أَنْ لا تَكُونَ بِسَبَبِ إِكْرَاهٍ .
فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهَا بِسَبَبِ إِكْرَاهٍ ، وَقَدْ تَمَّتْ شُرُوطُهُ ، فَإِنَّ مَا أَنْشَأَهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ تَبَعًا لِذَلِكَ لا يَلْزَمُهُ ، وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْقَتْلِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ ، وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَى لَمْ يَحِلَّ لَهُ ، فَإِنْ فَعَلَ فَلا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ ، وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى النُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ . وَلا يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا . وَهَذَا إِجْمَالٌ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ ( إِكْرَاهٌ ) .
أَمَّا التَّقِيَّةُ بِغَيْرِ سَبَبِ الإِكْرَاهِ ، بَلْ لِمُجَرَّدِ خَوْفِ الْمُسْلِمِ مِنْ أَنْ يَحِلَّ بِهِ الأَذَى مِنْ قَتْلٍ أَوْ قَطْعٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ سِجْنٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ صُنُوفِ الأَذَى وَالضَّرَرِ فَهَذَا النَّوْعُ لا يَحِلُّ بِهِ مَا يَحِلُّ بِالإِكْرَاهِ (53) . وَالتَّفْصِيلُ فِي إِكْرَاهٍ .
۞ مَا تَحِلُّ فِيهِ التَّقِيَّةُ ۞
۞ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا تَحِلُّ فِيهِ التَّقِيَّةُ وَمَا لا تَحِلُّ ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ التَّقِيَّةَ خَاصَّةً بِالْقَوْلِ ، وَلا تَتَعَدَّى إِلَى الْفِعْلِ ، وَعَلَيْهِ فَلا يُرَخَّصُ بِحَالٍ بِالسُّجُودِ لِصَنَمٍ أَوْ بِأَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ أَوْ بِزِنَى . وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ وَسَحْنُونٍ .
وَذَهَبَ الأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ الإِكْرَاهَ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ سَوَاءٌ (54) . وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلافٍ يُعْرَفُ مِمَّا فِي بَحْثِ ( إِكْرَاهٌ ) وَمِنَ التَّفْصِيلِ التَّالِي
۞ إِظْهَارُ الْكُفْرِ وَمُوَالاةُ الْكُفَّارِ ۞
تَقَدَّمَ بَيَانُ جَوَازِهِ عِنْدَ خَوْفِ الْقَتْلِ وَالإِيذَاءِ الْعَظِيمِ ، وَأَنَّ الصَّبْرَ عَلَى الأَذَى فِيهِ أَفْضَلُ مِنَ ارْتِكَابِهِ تَقِيَّةً . وَقَدْ تَكُونُ التَّقِيَّةُ بِإِظْهَارِ الْمُوَالاةِ وَلَوْ لَمْ يُكْرَهْ عَلَى النُّطْقِ بِالْكُفْرِ لَكِنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ إِنْ أَظْهَرَ لَهُمُ الْعَدَاءَ ، قَالَ الرَّازِيُّ : بِأَنْ لا يُظْهِرَ لَهُمُ الْعَدَاوَةَ بِاللِّسَانِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُظْهِرَ الْكَلامَ الْمُوهِمَ لِلْمَحَبَّةِ وَالْمُوَالاةِ ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُضْمِرَ خِلافَهُ وَأَنْ يُعَرِّضَ فِي كُلِّ مَا يَقُولُ ، فَإِنَّ التَّقِيَّةَ تَأْثِيرُهَا فِي الظَّاهِرِ لا فِي أَحْوَالِ الْقُلُوبِ (55) .
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى كُفْرٍ فِعْلِيٍّ كَالسُّجُودِ لِصَنَمٍ أَوْ إِهَانَةِ مُصْحَفٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرَخَّصُ لَهُ فِي فِعْلِهِ تَقِيَّةً ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي قَوْله تَعَالَى { إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } قَالَ : الْكُفْرُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ وَقَدْ يَكُونُ بِاعْتِقَادٍ ، فَاسْتَثْنَى الأَوَّلَ وَهُوَ الْمُكْرَهُ (56) .
۞ أَكْلُ لَحْمِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهِ ۞
۞ يُبَاحُ لِلْمُكْرَهِ شُرْبُ الْخَمْرِ وَأَكْلُ لَحْمِ الْمَيْتَةِ أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ إِذَا وُجِدَتْ شُرُوطُهَا لأَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الأَشْيَاءِ ثَابِتَةٌ بِالشَّرْعِ ، وَهِيَ مُفْسِدَةٌ فِي حَالِ الاخْتِيَارِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَثْنَى حَالَ الضَّرُورَةِ مِنَ التَّحْرِيمِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } (57) فَظَهَرَ أَنَّ التَّحْرِيمَ مَخْصُوصٌ بِحَالَةِ الاخْتِيَارِ ، وَقَدْ تَحَقَّقَتِ الضَّرُورَةُ هُنَا لِخَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِ الإِكْرَاهِ . . فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ يَكُونُ آثِمًا . وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لا يَكُونُ آثِمًا (58) .
۞ التَّقِيَّةُ فِي بَعْضِ أَفْعَالِ الصَّلاةِ ۞
۞ إِنْ خَافَ الْمُصَلِّي عَلَى نَفْسِهِ عَدُوًّا يَرَاهُ إِذَا قَامَ وَلا يَرَاهُ إِذَا قَعَدَ جَازَتْ صَلاتُهُ قَاعِدًا وَسَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْقِيَامِ (59) . وَكَذَا الأَسِيرُ لَدَى الْكُفَّارِ إِنْ خَافَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ إِنْ رَأَوْهُ يُصَلِّي فَإِنَّهُ يُصَلِّي كَيْفَمَا أَمْكَنَهُ ، قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا أَوْ مُسْتَلْقِيًا ، إِلَى الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهَا ، بِالإِيمَاءِ حَضَرًا أَوْ سَفَرًا ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ " (60) وَمِثْلُهُ الْمُخْتَبِئُ فِي مَكَانٍ يَخَافُ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ الْعَدُوُّ إِنْ خَرَجَ وَلا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَكَانِهِ عَلَى صِفَةِ الْكَمَالِ .
وَلَوْ خَافَ الْمُصَلِّي مِنْ عَدُوِّهِ الضَّرَرَ إِنْ رَآهُ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ فَلَهُ أَنْ يُومِئَ بِطَرَفِهِ وَيَنْوِيَ بِقَلْبِهِ (61) .
وَالْحَنَابِلَةُ لا يَرَوْنَ الصَّلاةَ خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ وَالْفَاسِقِ فِي غَيْرِ جُمُعَةٍ وَعِيدٍ يُصَلِّيَانِ بِمَكَانٍ وَاحِدٍ مِنَ الْبَلَدِ ، فَإِنْ خَافَ مِنْهُ إِنْ تَرَكَ الصَّلاةَ خَلْفَهُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي خَلْفَهُ تَقِيَّةً ثُمَّ يُعِيدُ الصَّلاةَ . وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ : < سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِنْبَرِهِ يَقُولُ لا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلا ، وَلا فَاجِرٌ مُؤْمِنًا ، إِلا أَنْ يَقْهَرَهُ بِسُلْطَانٍ أَوْ يَخَافَ سَوْطَهُ أَوْ سَيْفَهُ " (62) . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ حِيلَةً فِي تِلْكَ الْحَالِ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا مِنَ التَّقِيَّةِ لِمَا فِيهَا مِنَ الاسْتِتَارِ ، وَهِيَ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَهُ بِنِيَّةِ الانْفِرَادِ ، فَيُوَافِقُ الإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ ، فَتَصِحُّ صَلاتُهُ لأَنَّهُ أَتَى بِأَفْعَالِ الصَّلاةِ وَشُرُوطِهَا عَلَى الْكَمَالِ ، فَلا تَفْسُدُ بِمُوَافَقَةِ غَيْرِهِ فِي الأَفْعَالِ (63) .
۞ التَّقِيَّةُ فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ ۞
۞ إِذَا خَافَ عَلَى مَالِهِ مِنْ ظَالِمٍ يَغْصِبُهُ ، فَيُوَاطِئُ رَجُلا عَلَى أَنْ يُظْهِرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ لِيَحْتَمِيَ بِذَلِكَ وَلا يُرِيدَانِ بَيْعًا حَقِيقِيًّا . وَهَذَا الْبَيْعُ صَحِيحٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَبَاطِلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ .
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَفِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ : يَجُوزُ الاسْتِرْعَاءُ فِي الْبَيْعِ وَهُوَ أَنْ يُشْهِدَ قَبْلَ الْبَيْعِ أَنِّي إِنْ بِعْتُ هَذِهِ الدَّارَ فَإِنَّمَا أَبِيعُهَا لأَمْرٍ أَخَافُهُ مِنْ قِبَلِ ظَالِمٍ أَوْ غَاصِبٍ ، وَلا يَثْبُتُ الاسْتِرْعَاءُ فِي هَذِهِ الْحَالِ إِلا إِنْ كَانَ الشُّهُودُ يَعْرِفُونَ الإِكْرَاهَ عَلَى الْبَيْعِ وَالإِخَافَةَ الَّتِي يَذْكُرُهَا (64)
وَالاسْتِرْعَاءُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَصِحُّ وَيُفِيدُ صَاحِبَهُ فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ تَطَوُّعِيٍّ كَالطَّلاقِ وَالْوَقْفِ وَالْهِبَةِ . فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُنَفِّذَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الشُّهُودُ السَّبَبَ ، بِخِلافِ مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ ، إِذِ الْمُبَايَعَةُ خِلافُ مَا يُتَطَوَّعُ بِهِ وَقَدْ أَخَذَ الْبَائِعُ فِيهِ ثَمَنًا وَفِي ذَلِكَ حَقٌّ لِلْمُبْتَاعِ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : مَنِ اسْتُرْعِيَ فِي وَقْفٍ عَلَى تَقِيَّةٍ اتَّقَاهَا ثُمَّ أَشْهَدَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى إِمْضَائِهِ جَازَ لأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ عَلَى مِلْكِهِ .
وَإِنِ اسْتَرْعَى أَنَّهُ يَتْرُكُ حَقَّهُ فِي الشُّفْعَةِ خَوْفًا مِنْ إِضْرَارِ الْمُشْتَرِي وَلَهُ سُلْطَانٌ وَقُدْرَةٌ ، وَأَنَّهُ غَيْرُ تَارِكٍ لِطَلَبِهِ مَتَى أَمْكَنَهُ نَفَعَهُ ذَلِكَ . ثُمَّ إِذَا ذَهَبَتِ التَّقِيَّةُ وَقَامَ مِنْ فَوْرِهِ بِالْمُطَالَبَةِ قُضِيَ لَهُ .
وَاخْتَلَفُوا إِذَا سَكَتَ عَنِ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَ زَوَالِ مَا يَتَّقِيهِ ، وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ لا يَكُونُ لَهُ الْمُطَالَبَةُ ؛ لأَنَّهُ مَتَى زَالَ فَكَأَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ حِينَئِذٍ .
وَيَجِبُ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ شُهُودِ الاسْتِرْعَاءِ ، وَأَقَلُّهُمْ عِنْدَ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَرْبَعَةُ شُهُودٍ (65) . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ ( بَيْعُ التَّلْجِئَةِ ) .
۞ التَّقِيَّةُ فِي بَيَانِ الشَّرِيعَةِ وَالْحُكْمِ بِهَا ۞
۞ بَيَانُ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي الأَصْلِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ، وَإِذَا خَافَ الْمُسْلِمُ ضَرَرًا يَلْحَقُهُ مِنْ ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنَ الأَمْرِ وَالإِنْكَارِ بِالْيَدِ إِلَى الأَمْرِ وَالإِنْكَارِ بِاللِّسَانِ ، فَإِنْ خَافَ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا جَازَ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى السُّكُوتِ عَنِ الْمُنْكَرِ مَعَ الإِنْكَارِ بِقَلْبِهِ ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْوَارِدِ ، وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ التَّقِيَّةِ . عَلَى أَنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ حَيْثُ يُشْرَعُ التَّغْيِيرُ بِالْيَدِ ثُمَّ الإِنْكَارُ بِاللِّسَانِ ، مَعَ خَوْفِ الضَّرَرِ ، أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ السُّكُوتِ ، إِذْ إِنَّ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ الْجِهَادِ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حِكَايَةِ قَوْلِ لُقْمَانَ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ { يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } (66) وَفِي الْحَدِيثِ : " أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ثُمَّ رَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقُتِلَ " (67) .
۞ وَتَعْظُمُ دَرَجَةُ الآمِرِ وَالنَّاهِي إِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ ، بِأَنْ نَكَلَ عَنِ الْبَيَانِ مَنْ سِوَاهُ ، حَتَّى عَمَّ الْمُنْكَرُ وَظَهَرَ ، وَخَاصَّةً فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّلْبِيسِ فِي الدِّينِ وَطَمْسِ ، مَعَالِمِهِ ، فَلَوْ أَخَذَ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ بِالتَّقِيَّةِ ، وَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِوَاجِبِ الْبَيَانِ لَظَهَرَتِ الْبِدْعَةُ وَعَمَّتْ ، وَتَبَدَّلَتِ الشَّرِيعَةُ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ
وَقَدْ أُخِذَ الْعُلَمَاءُ فِي عَهْدِ الْمَأْمُونِ وَالْمُعْتَصِمِ وَامْتُحِنُوا لِيَقُولُوا بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَشُورَةٍ مِنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ . فَلَمَّا هُدِّدَ الْعُلَمَاءُ وَأُوذُوا قَالُوا بِذَلِكَ فَتُرِكُوا ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِنْهُمْ فِي الْمِحْنَةِ إِلا أَرْبَعَةٌ أَوْ خَمْسَةٌ مَاتَ بَعْضُهُمْ فِي السِّجْنِ (68) .
وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ أَيَّامَ مِحْنَتِهِ فِي خَلْقِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ سُئِلَ : إِنْ عُرِضْتَ عَلَى السَّيْفِ تُجِيبُ ؟ قَالَ : لا ، وَقَالَ : إِذَا أَجَابَ الْعَالِمُ تَقِيَّةً ، وَالْجَاهِلُ يَجْهَلُ ، فَمَتَى يَتَبَيَّنُ الْحَقُّ ؟ (69) .
وَكَانَ أَبُو يَعْقُوبَ الْبُوَيْطِيُّ صَاحِبُ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ مِمَّنِ امْتُحِنَ فَصَبَرَ كَذَلِكَ وَلَمْ يُجِبْ إِلَى مَا طَلَبُوهُ مِنْهُ فِي فِتْنَةِ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ ، لَمَّا وُشِيَ بِهِ . وَقَدْ قَالَ لَهُ أَمِيرُ مِصْرَ الَّذِي كُلِّفَ بِمِحْنَتِهِ : قُلْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ . قَالَ : إِنَّهُ يَقْتَدِي بِي مِائَةُ أَلْفٍ وَلا يَدْرُونَ مَا الْمَعْنَى . وَقَدْ أَمَرَ بِحَمْلِهِ مِنْ مِصْرَ إِلَى بَغْدَادَ فِي الْحَدِيدِ ، وَمَاتَ فِي السِّجْنِ بِبَغْدَادَ فِي الْقَيْدِ وَالْغُلِّ رَحِمَهُ اللَّهُ (70)
وَكَانَ لِثَبَاتِ أَحْمَدَ وَالْبُوَيْطِيِّ وَمَنْ مَعَهُمَا أَثَرُهُ فِي تَرَاجُعِ الْخِلافَةِ عَنْ ذَلِكَ الْمَنْهَجِ ، وَانْكَسَرَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ شَوْكَةُ الْمُعْتَزِلَةِ .
29 - وَلَيْسَ لِلْعَالِمِ أَنْ يَنْطِقَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَهُوَ يَعْلَمُ ، وَلا رُخْصَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ مُطْلَقًا ، إِنْ كَانَ السُّكُوتُ كَافِيًا لِنَجَاتِهِ ، لِعَدَمِ تَحَقُّقِ شَرْطِ جَوَازِ التَّقِيَّةِ حِينَئِذٍ .
وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْمَحْذُورِ أَيْضًا الْخَوْفُ مِنْ أَنْ يَخْفَى الْحَقُّ عَلَى الْجَاهِلِينَ أَوْ يَضْعُفَ إِيمَانُهُمْ وَيَحْجُمُوا عَنْ نَصْرِ حَقِّهِمُ اقْتِدَاءً بِمَنْ أَجَابَ تَقِيَّةً فَيَظُنُّوا جَوَابَهُ هُوَ الْجَوَابُ ، وَهُمْ غَافِلُونَ عَنْ مُرَادِهِ وَأَنَّهُ قَصَدَ التَّقِيَّةَ .
۞ مَا يَنْبَغِي لِلآخِذِ بِالتَّقِيَّةِ أَنْ يُرَاعِيَهُ ۞
۞ يَنْبَغِي لِمَنْ يَأْخُذُ بِالتَّقِيَّةِ أَنْ يُلاحِظَ أُمُورًا :
۞ مِنْهَا :
أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مُخَلِّصٌ غَيْرُ ارْتِكَابِ الْحَرَامِ ، فَيَجِبُ أَنْ يَلْجَأَ إِلَيْهِ ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُوَرِّيَ ، كَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى شَتْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَرَّمَ وَشَرَّفَ ، فَيَنْوِيَ مُحَمَّدًا آخَرَ فَإِنْ خَطَرَتْ بِبَالِهِ التَّوْرِيَةُ وَتَرَكَهَا لَمْ تَكُنِ التَّقِيَّةُ عُذْرًا لَهُ ، وَيُعْتَبَرُ كَافِرًا (71) .
۞ وَمِنْهَا :
أَنْ يُلاحِظَ عَدَمَ الانْسِيَاقِ مَعَ الرُّخْصَةِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَدِّ التَّقِيَّةِ إِلَى حَدِّ الانْحِلالِ بِارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الضَّرُورَةِ ، وَأَصْلُ ذَلِكَ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمُضْطَرِّ { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (72) فُسِّرَ الْبَاغِي بِمَنْ أَكَلَ الْحَرَامَ وَهُوَ يَجِدُ الْحَلالَ ، وَفُسِّرَ الْعَادِي بِمَنْ أَكَلَ مِنَ الْحَرَامِ فَوْقَ مَا تَقْتَضِيهِ الضَّرُورَةُ .
وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ التَّقِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } (73) فَحَذَّرَ تَعَالَى مِنْ نَفْسِهِ لِئَلا يَغْتَرَّ الْمُتَّقِي وَيَتَمَادَى . ثُمَّ قَالَ فِي الآيَةِ التَّالِيَةِ { قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } (74) فَنَبَّهَ عَلَى عِلْمِهِ بِمَا يُضْمِرُهُ مُرْتَكِبُ الْحَرَامِ بِمُوَالاةِ الْكُفَّارِ أَنَّهُ هَلْ يَفْعَلُهُ تَقِيَّةً أَوْ مُوَافَقَةً .
قَالَ الرَّازِيُّ : إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عَنِ اتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، وَاسْتَثْنَى التَّقِيَّةَ فِي الظَّاهِرِ ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ عَلَى أَنْ يَصِيرَ الْبَاطِنُ مُوَافِقًا لِلظَّاهِرِ فِي وَقْتِ التَّقِيَّةِ ، وَذَلِكَ لأَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عِنْدَ التَّقِيَّةِ عَلَى إِظْهَارِ الْمُوَالاةِ ، فَقَدْ يَصِيرُ إِقْدَامُهُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ سَبَبًا لِحُصُولِ تِلْكَ الْمُوَالاةِ فِي الْبَاطِنِ وَهَذَا الْوُقُوعُ فِي الْحَرَامِ وَعَدَمِ الْمُبَالاةِ بِهِ ، الَّذِي أَوَّلُهُ التَّرَخُّصُ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ ، وَآخِرُهُ الرِّضَا بِالْكُفْرِ وَانْشِرَاحُ الصَّدْرِ بِهِ ، هُوَ الْفِتْنَةُ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا بَقِيَّةُ الآيَاتِ مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ الَّتِي تَلَتْ آيَةَ الإِكْرَاهِ . قَالَ تَعَالَى { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } (75) وَفِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاَللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } (76)
قَالَ الطَّبَرِيُّ " مَعْنَاهُ إِذَا آذَاهُ الْمُشْرِكُونَ فِي إِقْرَارِهِ بِاَللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ إِيَّاهُ كَعَذَابِ اللَّهِ فِي الآخِرَةِ فَارْتَدَّ عَنْ إِيمَانِهِ بِاَللَّهِ رَاجِعًا إِلَى الْكُفْرِ بِهِ " . قَالَ : " وَذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ كَانُوا بِمَكَّةَ ، فَخَرَجُوا مِنْهَا مُهَاجِرِينَ فَأُدْرِكُوا وَأُخِذُوا فَأَعْطَوُا الْمُشْرِكِينَ لِمَا نَالَهُمْ أَذَاهُمْ مَا أَرَادُوهُ مِنْهُمْ (77) " . وَذَكَرَ غَيْرُ الطَّبَرِيِّ مِنْهُمْ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ أَخَا أَبِي جَهْلٍ لأُمِّهِ ، وَأَبَا جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ وَغَيْرَهُمْ ثُمَّ إِنَّهُمْ هَاجَرُوا فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } (78) .
۞ وَمِنْهَا أَنْ يُلاحِظَ النِّيَّةَ ، فَيَنْوِيَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَفْعَلُ الْحَرَامَ لِلضَّرُورَةِ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ حَرَامٌ إِلا أَنَّهُ يَأْخُذُ بِرُخْصَةِ اللَّهِ ، فَإِنْ فَعَلَهُ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ سَهْلٌ وَلا بَأْسَ بِهِ فَإِنَّهُ يَقَعُ فِي الإِثْمِ . وَهَذَا مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ آخِرُ الآيَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ } (79)
وَفِي الْحَدِيثِ " دَخَلَ رَجُلٌ الْجَنَّةَ فِي ذُبَابٍ وَدَخَلَ النَّارَ رَجُلٌ فِي ذُبَابٍ ، قَالُوا : وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ مَرَّ رَجُلانِ عَلَى قَوْمٍ لَهُمْ صَنَمٌ لا يَجُوزُهُ أَحَدٌ حَتَّى يُقَرِّبَ لَهُ شَيْئًا ، فَقَالُوا لأَحَدِهِمَا : قَرِّبْ قَالَ : لَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ فَقَالُوا لَهُ قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا ، فَقَرَّبَ ذُبَابًا فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ قَالَ : فَدَخَلَ النَّارَ ، وَقَالُوا لِلآخَرِ قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا قَالَ مَا كُنْتُ لأُقَرِّبَ لأَحَدٍ شَيْئًا دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : فَضَرَبُوا عُنُقَهُ قَالَ فَدَخَلَ الْجَنَّةَ " (80) .
۞ قَالَ فِي تَيْسِيرِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ : وَفِيهِ : أَنَّهُ دَخَلَ النَّارَ بِسَبَبٍ لَمْ يَقْصِدْهُ بَلْ فَعَلَهُ تَخَلُّصًا مِنْ شَرِّهِمْ .
وَفِيهِ : مَعْرِفَةُ قَدْرِ الشِّرْكِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ صَبَرَ عَلَى الْقَتْلِ وَلَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى طِلْبَتِهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ لَمْ يَطْلُبُوا إِلا الْعَمَلَ الظَّاهِرَ (81) .
................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
↓↓↓۞۞ التحقيق وذكر المصدر ۞۞↓↓↓
....
(1)حديث : " اتقوا النار ولو بشق تمرة . . . " أخرجه البخاري ( فتح الباري 3 / 282 ط السلفية ) من حديث أبي مسعود .
(2)سورة غافر / 45 .
(3)لسان العرب مادة : " و . ق . ي " .
(4)سورة آل عمران / 28 .
(5)المبسوط للسرخسي 24 / 45 بيروت ، ودار المعرفة بالأوفست عن طبعة القاهرة .
(6)فتح الباري 12 / 314 ، والمكتبة السلفية ، 1372 هـ .
(7)روضة العقلاء لابن حبان ص 56 القاهرة ، مصطفى الحلبي ، 1374هـ .
(8)روضة العقلاء ص 56 أيضا .
(9)روضة العقلاء ص 56 .
(10)سورة القلم / 9 .
(11)منهاج السنة النبوية ، القاهرة ، مطبعة بولاق 1 / 159 .
(12)تفسير القرطبي 4 / 57 .
(13)سورة آل عمران / 28 .
(14)تفسير الطبري 6 / 228 ، 313 ، القاهرة . مصطفى الحلبي 1373هـ .
(15)سورة النحل / 106 .
(16)حديث : " سب عمار للنبي صلى الله عليه وسلم عندما أكرهه المشركون " . أخرجه الحاكم ( 2 / 357 ط دار الكتاب العربي ) وقال : صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي . وابن جرير في تفسيره ( 4 / 182 ط مصطفى الحلبي ) . كلاهما من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه . وأبوه تابعي . قال ابن حجر " وإسناده صحيح إن كان محمد بن عمار سمعه من أبيه " ( الدراية 2 / 197 ط الفجالة ) .
(17)حديث : " أما ذلك المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه . . . " أخرجه ابن أبي شيبة ( 12 / 358 ط السلفية ) بلفظ " أما صاحبك فمضى على إيمانه ، وأما أنت فأخذت بالرخصة " من طريق يونس عن الحسن البصري ، فالحديث مرسل .
(18)الدر المنثورة 5 / 172 ، والرازي في تفسير سورة آل عمران 8 / 28 ، وفتح الباري 12 / 211 ط السلفية .
(19)تفسير القرطبي 4 / 57 القاهرة ، دار الكتب ، وتفسير الرازي 8 / 14 .
(20)المبسوط للسرخسي 24 / 45 .
(21)المبسوط 24 / 45 ، وفتح الباري لابن حجر شرح صحيح البخاري 12 / 211 القاهرة . المكتبة السلفية 1372 ، وتفسير الرازي 8 / 14 .
(22)سورة الأحزاب / 38 ـ 39 .
(23)سورة المائدة / 67 .
(24)تفسير القرطبي 6 / 242 .
(25)شرح مسلم الثبوت 2 / 97 مع المستصفى . بولاق ، وانظر مختصر التحفة ص 294 .
(26)مختصر التحفة الاثنى عشرية ص 295 .
(27)سورة النساء / 29 .
(28)تفسير القرطبي 4 / 57 .
(29)سورة العنكبوت / 2 ، 3 .
(30)حديث : " لا تشرك بالله شيئا وإن قتلت وحرقت " . أخرجه أحمد ( 5 / 238ط المكتب الإسلامي ) ، وابن ماجه ( 2 / 1339 ط عيسى الحلبي ) واللفظ له . قال البوصيري إسناده حسن . مختلف فيه ( مصباح الزجاجة 4 / 190 ط دار العربية ) .
(31)حديث : " لا تبعة عليه " سبق تخريجه ف / 7 .
(32)المبسوط للسرخسي 24 / 44 ( كتاب الإكراه ) ، وحديث خبيب : " هو أفضل الشهداء " . قال الزيلعي : ( غريب ) ( نصب الراية 4 / 159 ط المجلس العلمي ) ، وأصل حديث خبيب في البخاري ( 7 / 165 ط السلفية ) ،
(33)حديث : " قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل ، فيحفر له في . . . " أخرجه البخاري ( فتح الباري 12 / 315 ط السلفية ) .
(34)حديث : " حرمة مال المسلم كحرمة دمه " أخرجه أبو نعيم في الحلية ( 7 / 334 ط السعادة ) . والدارقطني ( 3 / 26 ط دار المحاسن ) . له طرق يتقوى بها ذكرها ابن حجر في التخليص الحبير ( 3 / 46 ط شركة الطباعة الفنية ) .
(35)حديث : " من قتل دون ماله فهو شهيد " . أخرجه أبو داود ( 5 / 128 ط عزت عبيد الدعاس ) . والترمذي ( 4 / 30 ط مصطفى الحلبي ) وقال : حديث حسن صحيح .
(36)تفسير الرازي ( 8 / 14 ط البهية المصرية 1938م ) .
(37)حديث : " من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة . . . " أخرجه ابن ماجه ( 2 / 874 ط عيسى الحلبي ) ، والبيهقي ( 8 / 22 ط دار المعرفة ) . واللفظ لابن ماجه . قال الحافظ البوصيري في الزوائد : في إسناده يزيد بن أبي زياد بالغوا في تضعيفه .
(38)تفسير الرازي 8 / 14 .
(39)المغني 8 / 147 القاهرة ، دار المنار ، الطبعة الثالثة .
(40)الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 368 القاهرة ، عيسى الحلبي .
(41)سورة النساء / 97 .
(42)روح المعاني 5 / 126 القاهرة ، المطبعة المنيرية ، 1955م وقال : إن ترك التأويل بلا عذر لا يقع طلاقه على الصحيح ، الفروع 5 / 368 ، والإنصاف 8 / 441 .
(43)سورة النساء / 98 ـ 99 .
(44)مختصر التحفة الاثني عشرية ص 287 .
(45)حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 368 .
(46)فتح الباري 12 / 314 .
(47)سبق تخريجه ف 15 .
(48)سبق تخريجه ف 15 .
(49)تفسير الرازي 8 / 14 ، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 368 .
(501)المبسوط 24 / 52 ، الدر المختار بهامش حاشية ابن عابدين 5 / 80 ، 81 ، والفروع لابن مفلح 5 / 368 ، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 368 .
(51)مختصر التحفة الاثنىعشرية ص 288 .
(52)سورة آل عمران / 187 .
(53)الهداية وتكملة فتح القدير 7 / 292 ، 293 القاهرة . المطبعة الميمنية 1319 هـ ، ورد المحتار 5 / 80 ط بولاق .
(54)فتح الباري 12 / 314 .
(55)تفسير الرازي 8 / 14 .
(56)فتح الباري 12 / 314 .
(57)سورة الأنعام / 119
(58)المبسوط 24 / 48 ، وفتح الباري 12 / 314 .
(59)كشاف القناع 1 / 385 .
(60)حديث : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " . أخرجه البخاري ( 13 / 251 ط السلفية ) ، ومسلم ( 2 / 975 ط عيسى الحلبي ) ، واللفظ للبخاري من حديث أبي هريرة .
(61)كشاف القناع 1 / 495 ـ 499 ، والمغني 1 / 630 ، 2 / 188 .
(62)حديث : " لا تؤمن امرأة رجلا ، ولا فاجر مؤمنا ، إلا أن . . . " أخرجه ابن ماجه ( 1 / 343 ط عيسى الحلبي ) . من حديث جابر بن عبد الله . قال الحافظ البوصيري في الزوائد . هذا إسناد ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان وعبد الله بن محمد العدوي .
(63)المغني 2 / 186 ، 192 .
(64)المغني 4 / 214 ، والإنصاف 4 / 265 ، وكشاف القناع 3 / 150 ، وتبصرة الحكام لابن فرحون 2 / 5 .
(65)تبصرة الحكام 2 / 3 ـ 5 .
(66)سورة لقمان / 17 .
(67)حديث : " أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ثم رجل قام إلى . . . " أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ ( 6 / 377 ط السعادة ) من حديث جابر بن عبد الله وإسناده حسن .
(68)البداية والنهاية لابن كثير 10 / 334 ، 335 القاهرة ، مطبعة السعادة .
(69)أحمد محمد شاكر ، في تعليق على دائرة المعارف الإسلامية ، الطبعة المترجمة إلى العربية مادة : " تقية " .
(70)طبقات الشافعية للسبكي 1 / 276 ، 277 بيروت ، دار المعرفة بالتصوير عن الطبعة المصرية القديمة .
(71)المبسوط للسرخسي 24 / 130 ، 131 ، وينظر الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 368 .
(72)سورة الأنعام / 145 .
(73)سورة آل عمران / 28 .
(74)سورة آل عمران / 29 .
(75)سورة النحل / 110 .
(76)سورة العنكبوت / 10 .
(77)تفسير الطبري 20 / 132 .
(78)سورة النحل / 110 .
(79)سورة النحل / 106 .
(80)حديث : " دخل رجل الجنة في ذباب . . . " أخرجه أحمد في الزهد ( ص 15 ط دار الكتب العلمية ) ، وأبو نعيم ( الحليلة 1 / 203 ط السعادة ) موقوفا على سلمان . ويرجع لشرح الحديث إلى كتاب " تيسير العزيز الحميد " للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب .
(81)تيسير العزيز الحميد ص 162 نشر إدارات البحوث العلمية بالسعودية..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقله ونسقة أخوكم#abou゚moaz من (الموسوعة الفقهية الكويتية )
اسْمُ مَصْدَرٍ مِنَ الاتِّقَاءِ ، يُقَالُ : اتَّقَى الرَّجُلُ الشَّيْءَ يَتَّقِيهِ ، إِذَا اتَّخَذَ سَاتِرًا يَحْفَظُهُ مِنْ ضَرَرِهِ ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ : " اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ " (1) . وَأَصْلُهُ مِنْ وَقَى الشَّيْءَ ، يَقِيهِ ، إِذَا صَانَهُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا } (2) أَيْ حَمَاهُ مِنْهُمْ فَلَمْ يَضُرَّهُ مَكْرُهُمْ . وَيُقَالُ فِي الْفِعْلِ أَيْضًا : تَقَاهُ يَتَّقِيهِ . وَالتَّاءُ هُنَا مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْوَاوِ .
وَالتُّقَاةُ وَالتَّقِيَّةُ وَالتَّقْوَى وَالتُّقَى وَالاتِّقَاءُ ، كُلُّهَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ فِي اسْتِعْمَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ (3) .
أَمَّا فِي اصْطِلاحِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّ التَّقْوَى وَالتُّقَى خُصَّا بِاتِّقَاءِ الْعَبْدِ لِلَّهِ تَعَالَى بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ وَالْخَوْفِ مِنَ ارْتِكَابِ مَا لا يَرْضَاهُ ، لأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَقِي مِنْ غَضَبِهِ وَعَذَابِهِ .
وَأَمَّا التُّقَاةُ وَالتَّقِيَّةُ فَقَدْ خُصَّتَا فِي الاصْطِلاحِ بِاتِّقَاءِ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا .
وَأَصْلُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } (4) .
وَقَدْ عَرَّفَهَا السَّرَخْسِيُّ بِقَوْلِهِ : التَّقِيَّةُ أَنْ يَقِيَ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ بِمَا يُظْهِرُهُ وَإِنْ كَانَ يُضْمِرُ خِلافَهُ (5) .
وَعَرَّفَهَا ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ : التَّقِيَّةُ الْحَذَرُ مِنْ إِظْهَارِ مَا فِي النَّفْسِ مِنْ مُعْتَقَدٍ وَغَيْرِهِ لِلْغَيْرِ (6) .
وَالتَّعْرِيفُ الأَوَّلُ أَشْمَلُ ، لأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ التَّقِيَّةُ بِالْفِعْلِ إِضَافَةً إِلَى التَّقِيَّةِ بِالْقَوْلِ وَالتَّقِيَّةِ فِي الْعَمَلِ كَمَا هِيَ فِي الاعْتِقَادِ .
2ــ: الْمُدَارَاةُ : ۞
الْمُدَارَاةُ مُلايَنَةُ النَّاسِ وَمُعَاشَرَتُهُمْ بِالْحُسْنَى مِنْ غَيْرِ ثَلَمٍ فِي الدِّينِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ (7) وَالإِغْضَاءُ عَنْ مُخَالَفَتِهِمْ فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ . وَأَصْلُهَا " الْمُدَارَأَةُ " بِالْهَمْزِ ، مِنَ الدَّرْءِ وَهُوَ الدَّفْعُ ، وَالْمُدَارَاةُ مَشْرُوعَةٌ ، وَذَلِكَ لأَنَّ وِدَادَ النَّاسِ لا يُسْتَجْلَبُ إِلا بِمُسَاعَدَتِهِمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ . وَالْبَشَرُ قَدْ رُكِّبَ فِيهِمْ أَهْوَاءٌ مُتَبَايِنَةٌ ، وَطِبَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ ، وَيَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ تَرْكُ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ ، فَلَيْسَ إِلَى صَفْوِ وِدَادِهِمْ سَبِيلٌ إِلا بِمُعَاشَرَتِهِمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِرَأْيِكَ وَهَوَاكَ (8) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُدَارَاةِ وَالتَّقِيَّةِ :
أَنَّ التَّقِيَّةَ غَالِبًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، وَأَمَّا الْمُدَارَاةُ فَهِيَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَجَلْبِ النَّفْعِ .
3ــ: الْمُدَاهَنَةُ : ۞
۞ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ : مَتَى مَا تَخَلَّقَ الْمَرْءُ بِخُلُقٍ يَشُوبُهُ بَعْضُ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ فَتِلْكَ هِيَ الْمُدَاهَنَةُ (9) . وقَوْله تَعَالَى : { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } (10) فَسَّرَهُ الْفَرَّاءُ ، كَمَا فِي اللِّسَانِ بِقَوْلِهِ : وَدُّوا لَوْ تَلِينَ فِي دِينِكَ فَيَلِينُونَ . وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ : أَيْ : وَدُّوا لَوْ تُصَانِعُهُمْ فِي الدِّينِ فَيُصَانِعُوكَ . وَهَذَا لَيْسَ بِمُخَالِفٍ لِمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ حِبَّانَ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَأْمُورًا بِالصَّدْعِ بِالدَّعْوَةِ وَعَدَمِ الْمُصَانَعَةِ فِي إِظْهَارِ الْحَقِّ وَعَيْبِ الأَصْنَامِ وَالآلِهَةِ الَّتِي اتَّخَذُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَكَانَ تَلْيِينُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْمَيْدَانِ مُدَاهَنَةً لا يَرْضَاهَا اللَّهُ تَعَالَى لأَنَّ فِيهَا تَرْكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْجَهْرِ بِالدَّعْوَةِ .
۞ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُدَاهَنَةِ وَالتَّقِيَّةِ : أَنَّ التَّقِيَّةَ لا تَحِلُّ إِلا لِدَفْعِ الضَّرَرِ ، أَمَّا الْمُدَاهَنَةُ فَلا تَحِلُّ أَصْلا ، لأَنَّهَا اللِّينُ فِي الدِّينِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ شَرْعًا
4ـــ:النِّفَاقُ : ۞
النِّفَاقُ هُوَ أَنْ يُظْهِرَ الإِيمَانَ وَيَسْتُرَ الْكُفْرَ ، وَقَدْ يُطْلَقُ النِّفَاقُ عَلَى الرِّيَاءِ ، قَالَ صَاحِبُ اللِّسَانِ : لأَنَّ كِلَيْهِمَا إِظْهَارُ غَيْرِ مَا فِي الْبَاطِنِ .
قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : أَسَاسُ النِّفَاقِ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ هُوَ الْكَذِبُ ، وَأَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ (11) .
۞ وَالصِّلَةُ بَيْنَ التَّقِيَّةِ وَبَيْنَ النِّفَاقِ ، أَنَّ الْمُنَافِقَ كَافِرٌ فِي قَلْبِهِ لَكِنَّهُ يُظْهِرُ بِلِسَانِهِ وَظَاهِرُ حَالِهِ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَيَعْمَلُ أَعْمَالَ الْمُؤْمِنِينَ لِيَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمُجْتَمَعِ الإِسْلامِيِّ وَلِيُحَصِّلَ الْمِيزَاتِ الَّتِي يُحَصِّلُهَا الْمُؤْمِنُ . فَهُوَ مُغَايِرٌ لِلتَّقِيَّةِ ؛ لأَنَّهَا إِظْهَارُ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهِ مَا يَأْمَنُ بِهِ مِنْ أَمَارَاتِ الْكُفْرِ أَوِ الْمَعْصِيَةِ مَعَ كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ فِي قَلْبِهِ ، وَاطْمِئْنَانِهِ بِالإِيمَانِ .
۞مَشْرُوعِيَّةُ الْعَمَلِ بِالتَّقِيَّةِ ۞
۞ يَذْهَبُ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ إِلَى أَنَّ الأَصْلَ فِي التَّقِيَّةِ هُوَ الْحَظْرُ ، وَجَوَازُهَا ضَرُورَةٌ ، فَتُبَاحُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَالتَّقِيَّةُ لا تَحِلُّ إِلا مَعَ خَوْفِ الْقَتْلِ أَوِ الْقَطْعِ أَوِ الإِيذَاءِ الْعَظِيمِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ فِيمَا نَعْلَمُ إِلا مَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَمُجَاهِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ (12) ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى ذَلِكَ لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَيْهَا فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ : { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } (13) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِهَا : نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُلاطِفُوا الْكُفَّارَ ، أَوْ يَتَّخِذُوهُمْ وَلِيجَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ، إِلا أَنْ يَكُونَ الْكُفَّارُ عَلَيْهِمْ ظَاهِرِينَ ، فَيُظْهِرُونَ لَهُمُ اللُّطْفَ وَيُخَالِفُونَهُمْ فِي الدِّينِ (14) .
۞ وَمِنَ الأَدِلَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّقِيَّةِ لِلضَّرُورَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (15) وَسَبَبُ نُزُولِ الآيَةِ " أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَخَذُوا عَمَّارًا فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ ، فَتَرَكُوهُ . فَلَمَّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَا وَرَاءَكَ ؟ قَالَ : شَرٌّ ، مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ .
قَالَ : كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ ؟ قَالَ : مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ . قَالَ : إِنْ عَادُوا فَعُدْ ، فَنَزَلَتْ { إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } (16) " .
۞ وَمِنَ الأَدِلَّةِ عَلَى جَوَازِ التَّقِيَّةِ لِلضَّرُورَةِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الْحَسَنِ ، " أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ أَخَذَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لأَحَدِهِمَا : أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . نَعَمْ . نَعَمْ . قَالَ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ وَكَانَ مُسَيْلِمَةُ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ بَنِي حَنِيفَةَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ قُرَيْشٍ - ثُمَّ دَعَا بِالآخَرِ ، فَقَالَ : أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : أَفَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ : إِنِّي أَصَمُّ . قَالَهَا ثَلاثًا ، كُلُّ ذَلِكَ يُجِيبُهُ بِمِثْلِ الأَوَّلِ . فَضَرَبَ عُنُقَهُ . فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَمَّا ذَلِكَ الْمَقْتُولُ فَقَدْ مَضَى عَلَى صِدْقِهِ وَيَقِينِهِ ، وَأَخَذَ بِفَضْلِهِ ، فَهَنِيئًا لَهُ . وَأَمَّا الآخَرُ فَقَبِلَ رُخْصَةَ اللَّهِ فَلا تَبِعَةَ عَلَيْهِ > (17)
۞ وَقَالَ الْحَسَنُ : التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (18) .
وَقَدْ نَسَبَ الْقُرْطُبِيُّ إِنْكَارَ التَّقِيَّةِ إِلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، وَنَسَبَهُ الرَّازِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ إِلَى مُجَاهِدٍ ، قَالا : " كَانَتِ التَّقِيَّةُ فِي جِدَّةِ الإِسْلامِ قَبْلَ قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ أَهْلَ الإِسْلامِ أَنْ يَتَّقُوا عَدُوَّهُمْ (19) " وَنَقَلَ السَّرَخْسِيُّ عَنْ قَوْمٍ لَمْ يُسَمِّهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْبَوْنَ التَّقِيَّةَ ، وَيَقُولُونَ : هِيَ مِنَ النِّفَاقِ (20) .
۞ التَّقِيَّةُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ ۞
۞ قَالَ السَّرَخْسِيُّ : إِنَّ هَذَا النَّوْعَ - يَعْنِي النُّطْقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ تَقِيَّةً - يَجُوزُ لِغَيْرِ الرُّسُلِ . فَأَمَّا فِي حَقِّ الْمُرْسَلِينَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - فَمَا كَانَ يَجُوزُ ذَلِكَ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى أَصْلِ الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ ، وَتَجْوِيزُ ذَلِكَ مُحَالٌ - أَيْ مَمْنُوعٌ شَرْعًا - لأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ لا يُقْطَعَ الْقَوْلُ بِمَا هُوَ شَرِيعَةٌ ، لاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ قَالَهُ تَقِيَّةً (21) . وَهُوَ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى مَا يُبَيِّنُهُ أَهْلُ الأُصُولِ مِنْ أَنَّ حُجِّيَّةَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى كَوْنِ كُلِّ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا ، إِذْ لَوْ تَطَرَّقَ إِلَى أَقْوَالِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ احْتِمَالٌ أَنَّهُ فَعَلَ أَوْ قَالَ أَشْيَاءَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ وَهِيَ حَرَامٌ ، لَكَانَ ذَلِكَ تَلْبِيسًا فِي الدِّينِ ، وَلَمَا حَصَلَتِ الثِّقَةُ بِأَقْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَفْعَالِهِ . وَكَذَلِكَ السُّكُوتُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَرَاهُ وَيَسْمَعُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِقْرَارٌ تُسْتَفَادُ مِنْهُ الأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ ، فَلَوْ كَانَ بَعْضُ سُكُوتِهِ يَكُونُ تَقِيَّةً لالْتَبَسَتِ الأَحْكَامُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاَللَّهِ حَسِيبًا } (22) ، وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } (23)
۞ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ ۞
دَلَّتِ الآيَةُ عَلَى رَدِّ قَوْلِ مَنْ قَالَ : إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ تَقِيَّةً ، وَعَلَى بُطْلانِهِ وَهُمُ الرَّافِضَةُ (24) .
قَالَ شَارِحُ مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ : مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلا بُعِثَ بَيْنَ أَعْدَائِهِ ، فَلَعَلَّهُ - أَيْ فِي حَالِ افْتِرَاضِ عَمَلِهِ بِالتَّقِيَّةِ - كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ خَوْفًا مِنْهُمْ ، وَكَذَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ بَيْنَ أَعْدَائِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلأَصْحَابِهِ قُدْرَةٌ لِدَفْعِهِمْ فَيَلْزَمُ عَلَى تَجْوِيزِ التَّقِيَّةِ لَهُ احْتِمَالُ كِتْمَانِهِ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ ، وَأَنْ لا ثِقَةَ بِالْقُرْآنِ . فَانْظُرْ إِلَى شَنَاعَةِ هَذَا الْقَوْلِ وَحَمَاقَتِهِ (25) . عَلَى أَنَّ امْتِنَاعَ التَّقِيَّةِ عَلَى الأَنْبِيَاءِ لا يَعْنِي عَدَمَ عَمَلِهِمْ بِالْمُلاطَفَةِ وَاللِّينِ وَالْمُدَارَاةِ لِلنَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ ، أَيْ مِنْ دُونِ إِخْلالٍ بِفَرِيضَةٍ أَوِ ارْتِكَابٍ لِمُحَرَّمٍ (26) .
۞ حُكْمُ الْعَمَلِ بِالتَّقِيَّةِ ۞
۞ تَقَدَّمَتْ الأَدِلَّةُ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِالتَّقِيَّةِ .
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حُكْمِهَا . فَقِيلَ : إِذَا وُجِدَ سَبَبُهَا وَتَحَقَّقَ شَرْطُهَا فَهِيَ وَاجِبَةٌ ، لأَنَّ إنْقَاذَ النَّفْسِ مِنَ الْهَلَكَةِ أَوِ الإِيذَاءِ الْعَظِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لا يَحْصُلُ إِلا بِهَا فِي تَقْدِيرِ الْمُكَلَّفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } (27)
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الأَوْلَى لِلإِنْسَانِ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ بِظَاهِرِهِ ، كَمَا هُوَ عَلَيْهِ بِبَاطِنِهِ (28) .
وَقَدْ يَكُونُ الثَّبَاتُ أَفْضَلَ وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَمَثُوبَةً وَلَوْ كَانَ الْعُذْرُ قَائِمًا ، وَثَبَتَ هَذَا بِالأَدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، فَمِنَ الْكِتَابِ مَا فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ ، فَقَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى قِصَّةَ الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى عَذَابِ الْحَرِيقِ فِي الأُخْدُودِ ، وَاخْتَارُوا ذَلِكَ عَلَى أَنْ يُظْهِرُوا الرُّجُوعَ عَنْ دِينِهِمْ . وَثَنَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ الثَّبَاتِ يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ مَوْقِفِهِمْ عَلَى مَوْقِفِ الْعَمَلِ بِالتَّقِيَّةِ فِي قَضِيَّةِ إظْهَارِ الْكُفْرِ .
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى : { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } (29)
وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لا تُشْرِكْ بِاَللَّهِ شَيْئًا وَإِنْ قُتِّلْتَ وَحُرِّقْتَ " (30) وَكَذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ مُسَيْلِمَةَ ، فَقَدْ عَذَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحَابِيَّ الَّذِي وَافَقَ مُسَيْلِمَةَ (31) وَقَالَ فِيهِ : < لا تَبِعَةَ عَلَيْهِ > وَقَالَ فِي حَقِّ الَّذِي ثَبَتَ فَقُتِلَ : < مَضَى عَلَى صِدْقِهِ وَيَقِينِهِ ، وَأَخَذَ بِفَضْلِهِ ، فَهَنِيئًا لَهُ > وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى التَّفْضِيلِ .
وَاحْتَجَّ السَّرَخْسِيُّ أَيْضًا بِقِصَّةِ < خُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ لَمَّا امْتَنَعَ مِنْ مُوَافَقَةِ قُرَيْشٍ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى قَتَلُوهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ وَقَالَ : هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ > (32) .
۞ وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَابًا بِعِنْوَانِ ( بَابُ مَنِ اخْتَارَ الضَّرْبَ وَالْقَتْلَ وَالْهَوَانَ عَلَى الْكُفْرِ ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ أَنَّهُ قَالَ < شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ ، فَقُلْنَا : أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا ؟ أَلا تَدْعُو لَنَا ؟ فَقَالَ : قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ ، فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ لَهُ فِيهَا ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مِنْ دُونِ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ ، لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ " (33) . وَهُوَ وَاضِحُ الدَّلالَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ .
وَهَكَذَا كُلُّ أَمْرٍ فِيهِ إعْزَازٌ لِلدِّينِ وَإِعْلاءٌ لِكَلِمَةِ اللَّهِ وَإِظْهَارٌ لِثَبَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَبَسَالَتِهِمْ ، وَتَثْبِيتٌ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْحَقِّ ، يَكُونُ الثَّبَاتُ عَلَى الْحَقِّ وَإِظْهَارُهُ أَوْلَى مِنَ التَّقِيَّةِ ، وَهَذَا بِخِلافِ نَحْوِ الإِكْرَاهِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَحَيْثُ لا تَظْهَرُ الْمَصَالِحُ الْمَذْكُورَةُ .
۞ قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ لِلتَّقِيَّةِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً وَنَحْنُ نَذْكُرُ بَعْضَهَا :
۞ ( الْحُكْمُ الأَوَّلُ ) :
أَنَّ التَّقِيَّةَ إنَّمَا تَكُونُ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ فِي قَوْمٍ كُفَّارٍ ، وَيَخَافُ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ فَيُدَارِيهِمْ بِاللِّسَانِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ لا يُظْهِرَ الْعَدَاوَةَ بِاللِّسَانِ ، بَلْ يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُظْهِرَ الْكَلامَ الْمُوهِمَ لِلْمَحَبَّةِ وَالْمُوَالاةِ ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُضْمِرَ خِلافَهُ ، وَأَنْ يُعَرِّضَ فِي كُلِّ مَا يَقُولُ ، فَإِنَّ التَّقِيَّةَ تَأْثِيرُهَا فِي الظَّاهِرِ لا فِي أَحْوَالِ الْقُلُوبِ .
۞ ( الْحُكْمُ الثَّانِي لِلتَّقِيَّةِ ) :
أَنَّهُ لَوْ أَفْصَحَ بِالإِيمَانِ وَالْحَقِّ حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ التَّقِيَّةُ كَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ ، وَدَلِيلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي قِصَّةِ مُسَيْلِمَةَ .
۞ ( الْحُكْمُ الثَّالِثُ لِلتَّقِيَّةِ ) :
أَنَّهَا إنَّمَا تَجُوزُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِظْهَارِ الْمُوَالاةِ وَالْمُعَادَاةِ ، وَقَدْ تَجُوزُ أَيْضًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِظْهَارِ الدِّينِ فَأَمَّا مَا يَرْجِعُ ضَرَرُهُ إِلَى الْغَيْرِ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَى وَغَصْبِ الأَمْوَالِ وَالشَّهَادَةِ بِالزُّورِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ وَاطِّلاعِ الْكُفَّارِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ ، فَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ أَلْبَتَّةَ .
۞ ( الْحُكْمُ الرَّابِعُ ) :
ظَاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقِيَّةَ إنَّمَا تَحِلُّ مَعَ الْكُفَّارِ الْغَالِبِينَ إِلا أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْحَالَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا شَاكَلَتِ الْحَالَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ حَلَّتِ التَّقِيَّةُ مُحَامَاةً عَلَى النَّفْسِ .
۞ ( الْحُكْمُ الْخَامِسُ ) :
التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ لِصَوْنِ النَّفْسِ ، وَهَلْ هِيَ جَائِزَةٌ لِصَوْنِ الْمَالِ ؟
يُحْتَمَلُ أَنْ يُحْكَمَ فِيهَا بِالْجَوَازِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ " (34) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ < مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ > (35) وَلأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْمَالِ شَدِيدَةٌ وَالْمَاءُ إِذَا بِيعَ بِالْغَبْنِ سَقَطَ فَرْضُ الْوُضُوءِ ، وَجَازَ الاقْتِصَارُ عَلَى التَّيَمُّمِ دَفْعًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ نُقْصَانِ الْمَالِ ، فَكَيْفَ لا يَجُوزُ هَاهُنَا .
۞ ( الْحُكْمُ السَّادِسُ ) :
قَالَ مُجَاهِدٌ : هَذَا الْحُكْمُ كَانَ ثَابِتًا فِي أَوَّلِ الإِسْلامِ لأَجْلِ ضَعْفِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَمَّا بَعْدَ قُوَّةِ دَوْلَةِ الإِسْلامِ فَلا ، وَرَوَى عَوْفٌ عَنِ الْحَسَنِ : أَنَّهُ قَالَ التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى ، لأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الإِمْكَانِ (36) .
۞ شُرُوطُ جَوَازِ التَّقِيَّةِ ۞
۞ أ - يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ التَّقِيَّةِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ خَوْفٌ مِنْ مَكْرُوهٍ ، عَلَى مَا يُذْكَرُ تَفْصِيلُهُ بَعْدُ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ خَوْفٌ وَلا خَطَرٌ لَمْ يَجُزِ ارْتِكَابُ الْمُحَرَّمِ تَقِيَّةً ، وَذَلِكَ كَمَنْ يَفْعَلُ الْمُحَرَّمَ تَوَدُّدًا إِلَى الْفُسَّاقِ أَوْ حَيَاءً مِنْهُمْ . وَإِنْ قَالَ خِلافَ الْحَقِيقَةِ كَانَ كَاذِبًا آثِمًا ، وَكَذَا مَنْ أَثْنَى عَلَى الظَّالِمِينَ أَوْ أَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَصِدْقِهِمْ بِكَذِبِهِمْ وَحُسْنِ طَرِيقَتِهِمْ لِتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ مِنْهُمْ دُونَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ خَطَرٌ مِنْهُمْ لَوْ سَكَتَ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ كَاذِبًا آثِمًا مُشَارِكًا لَهُمْ فِي ظُلْمِهِمْ وَفِسْقِهِمْ . وَإِنْ كَانَ فِيمَا صَدَّقَهُمْ بِهِ عُدْوَانٌ عَلَى مُسْلِمٍ فَذَلِكَ أَعْظَمُ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ فَهُوَ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ " (37) .
۞ ب - قِيلَ : يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ التَّقِيَّةِ أَنْ تَكُونَ مَعَ الْكُفَّارِ الْغَالِبِينَ وَسَبَقَ قَوْلُ الرَّازِيِّ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْحَالَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا شَاكَلَتِ الْحَالَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ حَلَّتِ التَّقِيَّةُ مُحَامَاةً عَنِ النَّفْسِ (38)
۞ ج - أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ إنْ نَطَقَ بِالْكُفْرِ وَنَحْوِهِ تَقِيَّةً يُتْرَكُ بَعْدَ ذَلِكَ . وَهَذَا الاشْتِرَاطُ مَنْقُولٌ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ ، فَقَدْ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يُؤْسَرُ فَيُعْرَضُ عَلَى الْكُفْرِ وَيُكْرَهُ عَلَيْهِ ، هَلْ لَهُ أَنْ يَرْتَدَّ - أَيْ ظَاهِرًا - فَكَرِهَهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً وَقَالَ : مَا يُشْبِهُ هَذَا عِنْدِي الَّذِينَ أُنْزِلَتْ فِيهِمُ الآيَةُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُولَئِكَ كَانُوا يُرَادُونَ عَلَى الْكَلِمَةِ ثُمَّ يُتْرَكُونَ يَفْعَلُونَ مَا شَاءُوا ، وَهَؤُلاءِ يُرِيدُونَهُمْ عَلَى الإِقَامَةِ عَلَى الْكُفْرِ وَتَرْكِ دِينِهِمْ .
۞ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : وَذَلِكَ لأَنَّ الَّذِي يُكْرَهُ عَلَى كَلِمَةٍ يَقُولُهَا ثُمَّ يُخَلَّى لا ضَرَرَ فِيهَا ، وَهَذَا الْمُقِيمُ بَيْنَهُمْ يَلْتَزِمُ بِإِجَابَتِهِمْ إِلَى الْكُفْرِ الْمُقَامِ عَلَيْهِ وَاسْتِحْلالِ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ الْمَحْظُورَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً تَزَوَّجُوهَا وَاسْتَوْلَدُوهَا أَوْلادًا كُفَّارًا . وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ . وَظَاهِرُ حَالِهِمُ الْمَصِيرُ إِلَى الْكُفْرِ الْحَقِيقِيِّ وَالانْسِلاخِ مِنَ الإِسْلامِ (39) . وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ إظْهَارُ الْكُفْرِ إنْ عُلِمَ أَنَّهُ يُتْرَكُ بَعْدَ ذَلِكَ ، أَمَّا إنْ كَانَ مَآلُهُ الالْتِزَامُ بِالإِقَامَةِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْكُفَّارِ يُجْرُونَ عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْكُفْرِ وَيَمْنَعُونَهُ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَافِقَهُمْ عَلَى إظْهَارِ الْكُفْرِ .
وَحِينَئِذٍ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنْ مِثْلِ تِلْكَ الأَرْضِ إِلَى حَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ فَلَيْسَ لَهُ الإِقَامَةُ الْمَذْكُورَةُ بِعُذْرِ التَّقِيَّةِ .
۞ د - وَيُشْتَرَطُ لِجَوَازِ التَّقِيَّةِ أَنْ لا يَكُونَ لِلْمُكَلَّفِ مُخَلِّصٌ مِنَ الأَذَى إِلا بِالتَّقِيَّةِ ، وَهَذَا الْمُخَلِّصُ قَدْ يَكُونُ الْهَرَبُ مِنَ الْقَتْلِ أَوِ الْقَطْعِ أَوِ الضَّرْبِ ، وَقَدْ يَكُونُ التَّوْرِيَةُ عِنْدَ الإِكْرَاهِ عَلَى الطَّلاقِ ، وَعَدَمِ الدَّهْشَةِ (40) وَهَذَا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ ، وَقَدْ تَكُونُ الْهِجْرَةُ مِنْ بَلَدِ الْكُفْرِ إِلَى بَلَدِ الإِسْلامِ . فَإِنْ أَمْكَنَتْهُ الْهِجْرَةُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُوَالاةُ الْكُفَّارِ وَتَرْكُ إظْهَارِ دِينِهِ
إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا - (41)
قَالَ الأَلُوسِيُّ : اعْتَذَرُوا عَنْ تَقْصِيرِهِمْ فِي إظْهَارِ الإِسْلامِ وَعَنْ إدْخَالِهِمُ الْخَلَلَ فِيهِ وَعَنِ الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بِوَاجِبَاتِ الدِّينِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مَقْهُورِينَ تَحْتَ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ ، وَأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ كَارِهِينَ . فَلَمْ تَقْبَلِ الْمَلائِكَةُ عُذْرَهُمْ لأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ ، فَاسْتَحَقُّوا عَذَابَ جَهَنَّمَ لِتَرْكِهِمُ الْفَرِيضَةَ الْمَحْتُومَةَ (42) .
وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ مَنْ كَانَ مَقْهُورًا لا يَقْدِرُ عَلَى الْهِجْرَةِ حَقِيقَةً لِضَعْفِهِ أَوْ لِصِغَرِ سِنِّهِ وَسَوَاءٌ أَكَانَ رَجُلا أَمِ امْرَأَةً بِحَيْثُ يَخْشَى التَّلَفَ لَوْ خَرَجَ مُهَاجِرًا فَذَلِكَ عُذْرٌ فِي الإِقَامَةِ وَتَرْكِ الْهِجْرَةِ . وَقَدْ صَرَّحَتْ بِهَذَا الْمَعْنَى الآيَتَانِ التَّالِيَتَانِ لِلآيَةِ السَّابِقَةِ وَهُمَا إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا - (43)
۞ وَقَالَ الأَلُوسِيُّ أَيْضًا " كُلُّ مُؤْمِنٍ وَقَعَ فِي مَحَلٍّ لا يُمْكِنُ لَهُ أَنْ يُظْهِرَ دِينَهُ لِتَعَرُّضِ الْمُخَالِفِينَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ إِلَى مَحَلٍّ يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى إظْهَارِ دِينِهِ ، وَلا يَجُوزُ لَهُ أَصْلا أَنْ يَبْقَى هُنَاكَ وَيُخْفِيَ دِينَهُ وَيَتَشَبَّثَ بِعُذْرِ الاسْتِضْعَافِ ، فَإِنَّ أَرْضَ اللَّهِ وَاسِعَةٌ . نَعَمْ إنْ كَانَ مِمَّنْ لَهُ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ فِي تَرْكِ الْهِجْرَةِ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعُمْيَانِ وَالْمَحْبُوسِينَ وَاَلَّذِينَ يُخَوِّفُهُمُ الْمُخَالِفُونَ بِالْقَتْلِ أَوْ قَتْلِ الأَوْلادِ أَوِ الآبَاءِ أَوِ الأُمَّهَاتِ تَخْوِيفًا يُظَنُّ مَعَهُ إيقَاعُ مَا خُوِّفُوا بِهِ غَالِبًا ، سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْقَتْلُ بِضَرْبِ الْعُنُقِ أَوْ حَبْسِ الْقُوتِ أَوْ بِنَحْوِ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْمُكْثُ مَعَ الْمُخَالِفِ ، وَالْمُوَافَقَةُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي الْحِيلَةِ لِلْخُرُوجِ وَالْفِرَارِ بِدِينِهِ . وَإِنْ كَانَ التَّخْوِيفُ بِفَوَاتِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ بِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ الَّتِي يُمْكِنُ تَحَمُّلُهَا كَالْحَبْسِ مَعَ الْقُوتِ ، وَالضَّرْبِ الْقَلِيلِ غَيْرِ الْمُهْلِكِ فَإِنَّهُ لا يَجُوزُ لَهُ مُوَافَقَتُهُمْ (44) .
۞ هـ - وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الأَذَى الْمَخُوفُ وُقُوعُهُ مِمَّا يَشُقُّ احْتِمَالُهُ . وَالأَذَى إمَّا أَنْ يَكُونَ بِضَرَرٍ فِي نَفْسِ الإِنْسَانِ أَوْ مَالِهِ أَوْ عِرْضِهِ . أَوْ فِي الْغَيْرِ ، أَوْ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةٍ . فَالأَوَّلُ كَخَوْفِ الْقَتْلِ أَوِ الْجُرْحِ أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ أَوِ الْحَرْقِ الْمُؤْلِمِ أَوِ الضَّرْبِ الشَّدِيدِ أَوِ الْحَبْسِ مَعَ التَّجْوِيعِ وَمَنْعِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : أَوْ خَوْفِ صَفْعٍ وَلَوْ قَلِيلا لِذِي مُرُوءَةٍ عَلَى مَلأٍ مِنَ النَّاسِ (45) .
أَمَّا التَّجْوِيعُ الْيَسِيرُ وَالْحَبْسُ الْيَسِيرُ وَالضَّرْبُ الْيَسِيرُ فَلا تَحِلُّ بِهِ التَّقِيَّةُ وَلا يُجِيزُ إظْهَارَ مُوَالاةِ الْكَافِرِينَ أَوِ ارْتِكَابَ الْمُحَرَّمِ . وَرَخَّصَ الْبَعْضُ فِي التَّقِيَّةِ لأَجْلِهِ . رَوَى شُرَيْحٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ : لَيْسَ الرَّجُلُ بِأَمِينٍ عَلَى نَفْسِهِ إِذَا سُجِنَ أَوْ أُوثِقَ أَوْ عُذِّبَ .
وَفِي لَفْظٍ : أَرْبَعٌ كُلُّهُنَّ كُرْهٌ : السِّجْنُ وَالضَّرْبُ وَالْوَعِيدُ وَالْقَيْدُ .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : مَا كَلامٌ يَدْرَأُ عَنِّي سَوْطَيْنِ إِلا كُنْت مُتَكَلِّمًا بِهِ (46) .
وَأَمَّا الْعِرْضُ فَكَأَنْ يَخْشَى عَلَى حَرَمِهِ مِنَ الاعْتِدَاءِ . وَأَمَّا الْخَوْفُ عَلَى الْمَالِ فَقَدْ قَالَ الرَّازِيُّ : فِيمَا سَبَقَ بَيَانُهُ : التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ لِصَوْنِ النَّفْسِ وَهَلْ هِيَ جَائِزَةٌ لِصَوْنِ الْمَالِ ؟ يُحْتَمَلُ أَنْ يُحْكَمَ فِيهَا بِالْجَوَازِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ گ حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ ڈ (47) . وَقَوْلُهُ گ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ڈ (48) وَلأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْمَالِ شَدِيدَةٌ ، وَالْمَاءُ إِذَا بِيعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ سَقَطَ فَرْضُ الْوُضُوءِ وَجَازَ الاقْتِصَارُ عَلَى التَّيَمُّمِ دَفْعًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ نُقْصَانِ الْمَالِ ، فَكَيْفَ لا يَجُوزُ هَاهُنَا ؟ وَقَالَ مَالِكٌ إِنَّ التَّخْوِيفَ بِأَخْذِ الْمَالِ إِكْرَاهٌ وَلَوْ قَلِيلا (49) وَفِي مَذْهَبِهِ غَيْرُ ذَلِكَ .
۞ قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى : الإِكْرَاهُ يَخْتَلِفُ .
وَاسْتَحْسَنَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ عَقِيلٍ . أَيْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ الأَشْخَاصِ وَاخْتِلافِ الأَمْرِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ وَالأَمْرِ الْمَخُوفِ فَرُبَّ أَمْرٍ يَرْهَبُ مِنْهُ شَخْصٌ ضَعِيفٌ وَلا يَرْهَبُهُ شَخْصٌ قَوِيٌّ شُجَاعٌ . وَرُبَّ شَخْصٍ ذِي وَجَاهَةٍ يَضَعُ الْحَبْسَ وَلَوْ يَوْمًا مِنْ قَدْرِهِ وَجَاهِهِ فَوْقَ مَا يَضَعُ لْحَبْسُ شَهْرًا مِنْ قَدْرِ غَيْرِهِ وَرُبَّ تَهْدِيدٍ أَوْ ضَرْبٍ يَسِيرٍ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْكَذِبُ الْيَسِيرُ وَيُلْغَى بِسَبَبِهِ الإِقْرَارُ بِالْمَالِ الْيَسِيرِ ، وَلا يُسْتَبَاحُ بِهِ الإِقْرَارُ بِالْكُفْرِ أَوِ الْمَالِ الْعَظِيمِ (50) . وَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مُصْطَلَحُ ( إِكْرَاهٌ ) .
وَأَمَّا خَوْفُ فَوْتِ الْمَنْفَعَةِ فَقَدْ قَالَ فِيهِ الأَلُوسِيُّ فِي مُخْتَصَرِ التُّحْفَةِ إِنَّهُ لا يُجِيزُ التَّقِيَّةَ (51) . وَذَلِكَ كَمَنْ يَخْشَى إِنْ لَمْ يُظْهِرِ الْمُحَرَّمَ أَنْ يَفُوتَهُ تَحْصِيلُ مَنْصِبٍ أَوْ مَالٍ يَرْجُو حُصُولَهُ وَلَيْسَ بِهِ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ . وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } (52) ذَمَّهُمْ عَلَى الْكِتْمَانِ فِي مُقَابَلَةِ مَصَالِحَ عَاجِلَةٍ . أَيْ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ . لأَنَّ قَوْلَ الْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَنَحْوِهَا وَقَوْلُ الإِنْسَانِ بِلِسَانِهِ خِلافُ مَا فِي قَلْبِهِ كُلُّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَالْكَاذِبُ مَثَلا لا يَكْذِبُ إِلا لِمَصْلَحَةٍ يَرْجُوهَا مِنْ وَرَاءِ كَذِبِهِ ، وَلَوْ سُئِلَ لَقَالَ إِنَّمَا كَذَبْتُ لِغَرَضِ كَذَا وَكَذَا أُرِيدُ تَحْصِيلَهُ ، فَلَوْ جَازَ الْكَذِبُ لِتَحْصِيلِ الْمَنْفَعَةِ لَعَادَ كُلُّ كَذِبٍ مُبَاحًا وَيَكُونُ هَذَا قَلْبًا لأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَإِخْرَاجًا لَهَا عَنْ وَضْعِهَا الَّذِي وُضِعَتْ عَلَيْهِ .
۞ أَنْوَاعُ التَّقِيَّةِ ۞
۞ التَّقِيَّةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِسَبَبِ إِكْرَاهٍ بِتَهْدِيدِ الْمُسْلِمِ بِمَا يَضُرُّهُ مِنْ تَعْذِيبٍ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، إِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا طُلِبَ مِنْهُ ، وَإِمَّا أَنْ لا تَكُونَ بِسَبَبِ إِكْرَاهٍ .
فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهَا بِسَبَبِ إِكْرَاهٍ ، وَقَدْ تَمَّتْ شُرُوطُهُ ، فَإِنَّ مَا أَنْشَأَهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ تَبَعًا لِذَلِكَ لا يَلْزَمُهُ ، وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْقَتْلِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ ، وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَى لَمْ يَحِلَّ لَهُ ، فَإِنْ فَعَلَ فَلا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ ، وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى النُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ . وَلا يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا . وَهَذَا إِجْمَالٌ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ ( إِكْرَاهٌ ) .
أَمَّا التَّقِيَّةُ بِغَيْرِ سَبَبِ الإِكْرَاهِ ، بَلْ لِمُجَرَّدِ خَوْفِ الْمُسْلِمِ مِنْ أَنْ يَحِلَّ بِهِ الأَذَى مِنْ قَتْلٍ أَوْ قَطْعٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ سِجْنٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ صُنُوفِ الأَذَى وَالضَّرَرِ فَهَذَا النَّوْعُ لا يَحِلُّ بِهِ مَا يَحِلُّ بِالإِكْرَاهِ (53) . وَالتَّفْصِيلُ فِي إِكْرَاهٍ .
۞ مَا تَحِلُّ فِيهِ التَّقِيَّةُ ۞
۞ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا تَحِلُّ فِيهِ التَّقِيَّةُ وَمَا لا تَحِلُّ ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ التَّقِيَّةَ خَاصَّةً بِالْقَوْلِ ، وَلا تَتَعَدَّى إِلَى الْفِعْلِ ، وَعَلَيْهِ فَلا يُرَخَّصُ بِحَالٍ بِالسُّجُودِ لِصَنَمٍ أَوْ بِأَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ أَوْ بِزِنَى . وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ وَسَحْنُونٍ .
وَذَهَبَ الأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ الإِكْرَاهَ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ سَوَاءٌ (54) . وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلافٍ يُعْرَفُ مِمَّا فِي بَحْثِ ( إِكْرَاهٌ ) وَمِنَ التَّفْصِيلِ التَّالِي
۞ إِظْهَارُ الْكُفْرِ وَمُوَالاةُ الْكُفَّارِ ۞
تَقَدَّمَ بَيَانُ جَوَازِهِ عِنْدَ خَوْفِ الْقَتْلِ وَالإِيذَاءِ الْعَظِيمِ ، وَأَنَّ الصَّبْرَ عَلَى الأَذَى فِيهِ أَفْضَلُ مِنَ ارْتِكَابِهِ تَقِيَّةً . وَقَدْ تَكُونُ التَّقِيَّةُ بِإِظْهَارِ الْمُوَالاةِ وَلَوْ لَمْ يُكْرَهْ عَلَى النُّطْقِ بِالْكُفْرِ لَكِنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ إِنْ أَظْهَرَ لَهُمُ الْعَدَاءَ ، قَالَ الرَّازِيُّ : بِأَنْ لا يُظْهِرَ لَهُمُ الْعَدَاوَةَ بِاللِّسَانِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُظْهِرَ الْكَلامَ الْمُوهِمَ لِلْمَحَبَّةِ وَالْمُوَالاةِ ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُضْمِرَ خِلافَهُ وَأَنْ يُعَرِّضَ فِي كُلِّ مَا يَقُولُ ، فَإِنَّ التَّقِيَّةَ تَأْثِيرُهَا فِي الظَّاهِرِ لا فِي أَحْوَالِ الْقُلُوبِ (55) .
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى كُفْرٍ فِعْلِيٍّ كَالسُّجُودِ لِصَنَمٍ أَوْ إِهَانَةِ مُصْحَفٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرَخَّصُ لَهُ فِي فِعْلِهِ تَقِيَّةً ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي قَوْله تَعَالَى { إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } قَالَ : الْكُفْرُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ وَقَدْ يَكُونُ بِاعْتِقَادٍ ، فَاسْتَثْنَى الأَوَّلَ وَهُوَ الْمُكْرَهُ (56) .
۞ أَكْلُ لَحْمِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهِ ۞
۞ يُبَاحُ لِلْمُكْرَهِ شُرْبُ الْخَمْرِ وَأَكْلُ لَحْمِ الْمَيْتَةِ أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ إِذَا وُجِدَتْ شُرُوطُهَا لأَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الأَشْيَاءِ ثَابِتَةٌ بِالشَّرْعِ ، وَهِيَ مُفْسِدَةٌ فِي حَالِ الاخْتِيَارِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَثْنَى حَالَ الضَّرُورَةِ مِنَ التَّحْرِيمِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } (57) فَظَهَرَ أَنَّ التَّحْرِيمَ مَخْصُوصٌ بِحَالَةِ الاخْتِيَارِ ، وَقَدْ تَحَقَّقَتِ الضَّرُورَةُ هُنَا لِخَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِ الإِكْرَاهِ . . فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ يَكُونُ آثِمًا . وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لا يَكُونُ آثِمًا (58) .
۞ التَّقِيَّةُ فِي بَعْضِ أَفْعَالِ الصَّلاةِ ۞
۞ إِنْ خَافَ الْمُصَلِّي عَلَى نَفْسِهِ عَدُوًّا يَرَاهُ إِذَا قَامَ وَلا يَرَاهُ إِذَا قَعَدَ جَازَتْ صَلاتُهُ قَاعِدًا وَسَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْقِيَامِ (59) . وَكَذَا الأَسِيرُ لَدَى الْكُفَّارِ إِنْ خَافَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ إِنْ رَأَوْهُ يُصَلِّي فَإِنَّهُ يُصَلِّي كَيْفَمَا أَمْكَنَهُ ، قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا أَوْ مُسْتَلْقِيًا ، إِلَى الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهَا ، بِالإِيمَاءِ حَضَرًا أَوْ سَفَرًا ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ " (60) وَمِثْلُهُ الْمُخْتَبِئُ فِي مَكَانٍ يَخَافُ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ الْعَدُوُّ إِنْ خَرَجَ وَلا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَكَانِهِ عَلَى صِفَةِ الْكَمَالِ .
وَلَوْ خَافَ الْمُصَلِّي مِنْ عَدُوِّهِ الضَّرَرَ إِنْ رَآهُ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ فَلَهُ أَنْ يُومِئَ بِطَرَفِهِ وَيَنْوِيَ بِقَلْبِهِ (61) .
وَالْحَنَابِلَةُ لا يَرَوْنَ الصَّلاةَ خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ وَالْفَاسِقِ فِي غَيْرِ جُمُعَةٍ وَعِيدٍ يُصَلِّيَانِ بِمَكَانٍ وَاحِدٍ مِنَ الْبَلَدِ ، فَإِنْ خَافَ مِنْهُ إِنْ تَرَكَ الصَّلاةَ خَلْفَهُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي خَلْفَهُ تَقِيَّةً ثُمَّ يُعِيدُ الصَّلاةَ . وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ : < سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِنْبَرِهِ يَقُولُ لا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلا ، وَلا فَاجِرٌ مُؤْمِنًا ، إِلا أَنْ يَقْهَرَهُ بِسُلْطَانٍ أَوْ يَخَافَ سَوْطَهُ أَوْ سَيْفَهُ " (62) . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ حِيلَةً فِي تِلْكَ الْحَالِ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا مِنَ التَّقِيَّةِ لِمَا فِيهَا مِنَ الاسْتِتَارِ ، وَهِيَ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَهُ بِنِيَّةِ الانْفِرَادِ ، فَيُوَافِقُ الإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ ، فَتَصِحُّ صَلاتُهُ لأَنَّهُ أَتَى بِأَفْعَالِ الصَّلاةِ وَشُرُوطِهَا عَلَى الْكَمَالِ ، فَلا تَفْسُدُ بِمُوَافَقَةِ غَيْرِهِ فِي الأَفْعَالِ (63) .
۞ التَّقِيَّةُ فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ ۞
۞ إِذَا خَافَ عَلَى مَالِهِ مِنْ ظَالِمٍ يَغْصِبُهُ ، فَيُوَاطِئُ رَجُلا عَلَى أَنْ يُظْهِرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ لِيَحْتَمِيَ بِذَلِكَ وَلا يُرِيدَانِ بَيْعًا حَقِيقِيًّا . وَهَذَا الْبَيْعُ صَحِيحٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَبَاطِلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ .
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَفِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ : يَجُوزُ الاسْتِرْعَاءُ فِي الْبَيْعِ وَهُوَ أَنْ يُشْهِدَ قَبْلَ الْبَيْعِ أَنِّي إِنْ بِعْتُ هَذِهِ الدَّارَ فَإِنَّمَا أَبِيعُهَا لأَمْرٍ أَخَافُهُ مِنْ قِبَلِ ظَالِمٍ أَوْ غَاصِبٍ ، وَلا يَثْبُتُ الاسْتِرْعَاءُ فِي هَذِهِ الْحَالِ إِلا إِنْ كَانَ الشُّهُودُ يَعْرِفُونَ الإِكْرَاهَ عَلَى الْبَيْعِ وَالإِخَافَةَ الَّتِي يَذْكُرُهَا (64)
وَالاسْتِرْعَاءُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَصِحُّ وَيُفِيدُ صَاحِبَهُ فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ تَطَوُّعِيٍّ كَالطَّلاقِ وَالْوَقْفِ وَالْهِبَةِ . فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُنَفِّذَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الشُّهُودُ السَّبَبَ ، بِخِلافِ مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ ، إِذِ الْمُبَايَعَةُ خِلافُ مَا يُتَطَوَّعُ بِهِ وَقَدْ أَخَذَ الْبَائِعُ فِيهِ ثَمَنًا وَفِي ذَلِكَ حَقٌّ لِلْمُبْتَاعِ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : مَنِ اسْتُرْعِيَ فِي وَقْفٍ عَلَى تَقِيَّةٍ اتَّقَاهَا ثُمَّ أَشْهَدَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى إِمْضَائِهِ جَازَ لأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ عَلَى مِلْكِهِ .
وَإِنِ اسْتَرْعَى أَنَّهُ يَتْرُكُ حَقَّهُ فِي الشُّفْعَةِ خَوْفًا مِنْ إِضْرَارِ الْمُشْتَرِي وَلَهُ سُلْطَانٌ وَقُدْرَةٌ ، وَأَنَّهُ غَيْرُ تَارِكٍ لِطَلَبِهِ مَتَى أَمْكَنَهُ نَفَعَهُ ذَلِكَ . ثُمَّ إِذَا ذَهَبَتِ التَّقِيَّةُ وَقَامَ مِنْ فَوْرِهِ بِالْمُطَالَبَةِ قُضِيَ لَهُ .
وَاخْتَلَفُوا إِذَا سَكَتَ عَنِ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَ زَوَالِ مَا يَتَّقِيهِ ، وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ لا يَكُونُ لَهُ الْمُطَالَبَةُ ؛ لأَنَّهُ مَتَى زَالَ فَكَأَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ حِينَئِذٍ .
وَيَجِبُ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ شُهُودِ الاسْتِرْعَاءِ ، وَأَقَلُّهُمْ عِنْدَ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَرْبَعَةُ شُهُودٍ (65) . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ ( بَيْعُ التَّلْجِئَةِ ) .
۞ التَّقِيَّةُ فِي بَيَانِ الشَّرِيعَةِ وَالْحُكْمِ بِهَا ۞
۞ بَيَانُ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي الأَصْلِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ، وَإِذَا خَافَ الْمُسْلِمُ ضَرَرًا يَلْحَقُهُ مِنْ ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنَ الأَمْرِ وَالإِنْكَارِ بِالْيَدِ إِلَى الأَمْرِ وَالإِنْكَارِ بِاللِّسَانِ ، فَإِنْ خَافَ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا جَازَ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى السُّكُوتِ عَنِ الْمُنْكَرِ مَعَ الإِنْكَارِ بِقَلْبِهِ ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْوَارِدِ ، وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ التَّقِيَّةِ . عَلَى أَنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ حَيْثُ يُشْرَعُ التَّغْيِيرُ بِالْيَدِ ثُمَّ الإِنْكَارُ بِاللِّسَانِ ، مَعَ خَوْفِ الضَّرَرِ ، أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ السُّكُوتِ ، إِذْ إِنَّ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ الْجِهَادِ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حِكَايَةِ قَوْلِ لُقْمَانَ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ { يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } (66) وَفِي الْحَدِيثِ : " أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ثُمَّ رَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقُتِلَ " (67) .
۞ وَتَعْظُمُ دَرَجَةُ الآمِرِ وَالنَّاهِي إِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ ، بِأَنْ نَكَلَ عَنِ الْبَيَانِ مَنْ سِوَاهُ ، حَتَّى عَمَّ الْمُنْكَرُ وَظَهَرَ ، وَخَاصَّةً فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّلْبِيسِ فِي الدِّينِ وَطَمْسِ ، مَعَالِمِهِ ، فَلَوْ أَخَذَ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ بِالتَّقِيَّةِ ، وَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِوَاجِبِ الْبَيَانِ لَظَهَرَتِ الْبِدْعَةُ وَعَمَّتْ ، وَتَبَدَّلَتِ الشَّرِيعَةُ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ
وَقَدْ أُخِذَ الْعُلَمَاءُ فِي عَهْدِ الْمَأْمُونِ وَالْمُعْتَصِمِ وَامْتُحِنُوا لِيَقُولُوا بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَشُورَةٍ مِنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ . فَلَمَّا هُدِّدَ الْعُلَمَاءُ وَأُوذُوا قَالُوا بِذَلِكَ فَتُرِكُوا ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِنْهُمْ فِي الْمِحْنَةِ إِلا أَرْبَعَةٌ أَوْ خَمْسَةٌ مَاتَ بَعْضُهُمْ فِي السِّجْنِ (68) .
وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ أَيَّامَ مِحْنَتِهِ فِي خَلْقِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ سُئِلَ : إِنْ عُرِضْتَ عَلَى السَّيْفِ تُجِيبُ ؟ قَالَ : لا ، وَقَالَ : إِذَا أَجَابَ الْعَالِمُ تَقِيَّةً ، وَالْجَاهِلُ يَجْهَلُ ، فَمَتَى يَتَبَيَّنُ الْحَقُّ ؟ (69) .
وَكَانَ أَبُو يَعْقُوبَ الْبُوَيْطِيُّ صَاحِبُ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ مِمَّنِ امْتُحِنَ فَصَبَرَ كَذَلِكَ وَلَمْ يُجِبْ إِلَى مَا طَلَبُوهُ مِنْهُ فِي فِتْنَةِ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ ، لَمَّا وُشِيَ بِهِ . وَقَدْ قَالَ لَهُ أَمِيرُ مِصْرَ الَّذِي كُلِّفَ بِمِحْنَتِهِ : قُلْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ . قَالَ : إِنَّهُ يَقْتَدِي بِي مِائَةُ أَلْفٍ وَلا يَدْرُونَ مَا الْمَعْنَى . وَقَدْ أَمَرَ بِحَمْلِهِ مِنْ مِصْرَ إِلَى بَغْدَادَ فِي الْحَدِيدِ ، وَمَاتَ فِي السِّجْنِ بِبَغْدَادَ فِي الْقَيْدِ وَالْغُلِّ رَحِمَهُ اللَّهُ (70)
وَكَانَ لِثَبَاتِ أَحْمَدَ وَالْبُوَيْطِيِّ وَمَنْ مَعَهُمَا أَثَرُهُ فِي تَرَاجُعِ الْخِلافَةِ عَنْ ذَلِكَ الْمَنْهَجِ ، وَانْكَسَرَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ شَوْكَةُ الْمُعْتَزِلَةِ .
29 - وَلَيْسَ لِلْعَالِمِ أَنْ يَنْطِقَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَهُوَ يَعْلَمُ ، وَلا رُخْصَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ مُطْلَقًا ، إِنْ كَانَ السُّكُوتُ كَافِيًا لِنَجَاتِهِ ، لِعَدَمِ تَحَقُّقِ شَرْطِ جَوَازِ التَّقِيَّةِ حِينَئِذٍ .
وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْمَحْذُورِ أَيْضًا الْخَوْفُ مِنْ أَنْ يَخْفَى الْحَقُّ عَلَى الْجَاهِلِينَ أَوْ يَضْعُفَ إِيمَانُهُمْ وَيَحْجُمُوا عَنْ نَصْرِ حَقِّهِمُ اقْتِدَاءً بِمَنْ أَجَابَ تَقِيَّةً فَيَظُنُّوا جَوَابَهُ هُوَ الْجَوَابُ ، وَهُمْ غَافِلُونَ عَنْ مُرَادِهِ وَأَنَّهُ قَصَدَ التَّقِيَّةَ .
۞ مَا يَنْبَغِي لِلآخِذِ بِالتَّقِيَّةِ أَنْ يُرَاعِيَهُ ۞
۞ يَنْبَغِي لِمَنْ يَأْخُذُ بِالتَّقِيَّةِ أَنْ يُلاحِظَ أُمُورًا :
۞ مِنْهَا :
أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مُخَلِّصٌ غَيْرُ ارْتِكَابِ الْحَرَامِ ، فَيَجِبُ أَنْ يَلْجَأَ إِلَيْهِ ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُوَرِّيَ ، كَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى شَتْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَرَّمَ وَشَرَّفَ ، فَيَنْوِيَ مُحَمَّدًا آخَرَ فَإِنْ خَطَرَتْ بِبَالِهِ التَّوْرِيَةُ وَتَرَكَهَا لَمْ تَكُنِ التَّقِيَّةُ عُذْرًا لَهُ ، وَيُعْتَبَرُ كَافِرًا (71) .
۞ وَمِنْهَا :
أَنْ يُلاحِظَ عَدَمَ الانْسِيَاقِ مَعَ الرُّخْصَةِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَدِّ التَّقِيَّةِ إِلَى حَدِّ الانْحِلالِ بِارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الضَّرُورَةِ ، وَأَصْلُ ذَلِكَ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمُضْطَرِّ { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (72) فُسِّرَ الْبَاغِي بِمَنْ أَكَلَ الْحَرَامَ وَهُوَ يَجِدُ الْحَلالَ ، وَفُسِّرَ الْعَادِي بِمَنْ أَكَلَ مِنَ الْحَرَامِ فَوْقَ مَا تَقْتَضِيهِ الضَّرُورَةُ .
وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ التَّقِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } (73) فَحَذَّرَ تَعَالَى مِنْ نَفْسِهِ لِئَلا يَغْتَرَّ الْمُتَّقِي وَيَتَمَادَى . ثُمَّ قَالَ فِي الآيَةِ التَّالِيَةِ { قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } (74) فَنَبَّهَ عَلَى عِلْمِهِ بِمَا يُضْمِرُهُ مُرْتَكِبُ الْحَرَامِ بِمُوَالاةِ الْكُفَّارِ أَنَّهُ هَلْ يَفْعَلُهُ تَقِيَّةً أَوْ مُوَافَقَةً .
قَالَ الرَّازِيُّ : إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عَنِ اتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، وَاسْتَثْنَى التَّقِيَّةَ فِي الظَّاهِرِ ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ عَلَى أَنْ يَصِيرَ الْبَاطِنُ مُوَافِقًا لِلظَّاهِرِ فِي وَقْتِ التَّقِيَّةِ ، وَذَلِكَ لأَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عِنْدَ التَّقِيَّةِ عَلَى إِظْهَارِ الْمُوَالاةِ ، فَقَدْ يَصِيرُ إِقْدَامُهُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ سَبَبًا لِحُصُولِ تِلْكَ الْمُوَالاةِ فِي الْبَاطِنِ وَهَذَا الْوُقُوعُ فِي الْحَرَامِ وَعَدَمِ الْمُبَالاةِ بِهِ ، الَّذِي أَوَّلُهُ التَّرَخُّصُ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ ، وَآخِرُهُ الرِّضَا بِالْكُفْرِ وَانْشِرَاحُ الصَّدْرِ بِهِ ، هُوَ الْفِتْنَةُ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا بَقِيَّةُ الآيَاتِ مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ الَّتِي تَلَتْ آيَةَ الإِكْرَاهِ . قَالَ تَعَالَى { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } (75) وَفِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاَللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } (76)
قَالَ الطَّبَرِيُّ " مَعْنَاهُ إِذَا آذَاهُ الْمُشْرِكُونَ فِي إِقْرَارِهِ بِاَللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ إِيَّاهُ كَعَذَابِ اللَّهِ فِي الآخِرَةِ فَارْتَدَّ عَنْ إِيمَانِهِ بِاَللَّهِ رَاجِعًا إِلَى الْكُفْرِ بِهِ " . قَالَ : " وَذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ كَانُوا بِمَكَّةَ ، فَخَرَجُوا مِنْهَا مُهَاجِرِينَ فَأُدْرِكُوا وَأُخِذُوا فَأَعْطَوُا الْمُشْرِكِينَ لِمَا نَالَهُمْ أَذَاهُمْ مَا أَرَادُوهُ مِنْهُمْ (77) " . وَذَكَرَ غَيْرُ الطَّبَرِيِّ مِنْهُمْ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ أَخَا أَبِي جَهْلٍ لأُمِّهِ ، وَأَبَا جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ وَغَيْرَهُمْ ثُمَّ إِنَّهُمْ هَاجَرُوا فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } (78) .
۞ وَمِنْهَا أَنْ يُلاحِظَ النِّيَّةَ ، فَيَنْوِيَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَفْعَلُ الْحَرَامَ لِلضَّرُورَةِ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ حَرَامٌ إِلا أَنَّهُ يَأْخُذُ بِرُخْصَةِ اللَّهِ ، فَإِنْ فَعَلَهُ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ سَهْلٌ وَلا بَأْسَ بِهِ فَإِنَّهُ يَقَعُ فِي الإِثْمِ . وَهَذَا مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ آخِرُ الآيَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ } (79)
وَفِي الْحَدِيثِ " دَخَلَ رَجُلٌ الْجَنَّةَ فِي ذُبَابٍ وَدَخَلَ النَّارَ رَجُلٌ فِي ذُبَابٍ ، قَالُوا : وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ مَرَّ رَجُلانِ عَلَى قَوْمٍ لَهُمْ صَنَمٌ لا يَجُوزُهُ أَحَدٌ حَتَّى يُقَرِّبَ لَهُ شَيْئًا ، فَقَالُوا لأَحَدِهِمَا : قَرِّبْ قَالَ : لَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ فَقَالُوا لَهُ قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا ، فَقَرَّبَ ذُبَابًا فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ قَالَ : فَدَخَلَ النَّارَ ، وَقَالُوا لِلآخَرِ قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا قَالَ مَا كُنْتُ لأُقَرِّبَ لأَحَدٍ شَيْئًا دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : فَضَرَبُوا عُنُقَهُ قَالَ فَدَخَلَ الْجَنَّةَ " (80) .
۞ قَالَ فِي تَيْسِيرِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ : وَفِيهِ : أَنَّهُ دَخَلَ النَّارَ بِسَبَبٍ لَمْ يَقْصِدْهُ بَلْ فَعَلَهُ تَخَلُّصًا مِنْ شَرِّهِمْ .
وَفِيهِ : مَعْرِفَةُ قَدْرِ الشِّرْكِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ صَبَرَ عَلَى الْقَتْلِ وَلَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى طِلْبَتِهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ لَمْ يَطْلُبُوا إِلا الْعَمَلَ الظَّاهِرَ (81) .
................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
↓↓↓۞۞ التحقيق وذكر المصدر ۞۞↓↓↓
....
(1)حديث : " اتقوا النار ولو بشق تمرة . . . " أخرجه البخاري ( فتح الباري 3 / 282 ط السلفية ) من حديث أبي مسعود .
(2)سورة غافر / 45 .
(3)لسان العرب مادة : " و . ق . ي " .
(4)سورة آل عمران / 28 .
(5)المبسوط للسرخسي 24 / 45 بيروت ، ودار المعرفة بالأوفست عن طبعة القاهرة .
(6)فتح الباري 12 / 314 ، والمكتبة السلفية ، 1372 هـ .
(7)روضة العقلاء لابن حبان ص 56 القاهرة ، مصطفى الحلبي ، 1374هـ .
(8)روضة العقلاء ص 56 أيضا .
(9)روضة العقلاء ص 56 .
(10)سورة القلم / 9 .
(11)منهاج السنة النبوية ، القاهرة ، مطبعة بولاق 1 / 159 .
(12)تفسير القرطبي 4 / 57 .
(13)سورة آل عمران / 28 .
(14)تفسير الطبري 6 / 228 ، 313 ، القاهرة . مصطفى الحلبي 1373هـ .
(15)سورة النحل / 106 .
(16)حديث : " سب عمار للنبي صلى الله عليه وسلم عندما أكرهه المشركون " . أخرجه الحاكم ( 2 / 357 ط دار الكتاب العربي ) وقال : صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي . وابن جرير في تفسيره ( 4 / 182 ط مصطفى الحلبي ) . كلاهما من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه . وأبوه تابعي . قال ابن حجر " وإسناده صحيح إن كان محمد بن عمار سمعه من أبيه " ( الدراية 2 / 197 ط الفجالة ) .
(17)حديث : " أما ذلك المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه . . . " أخرجه ابن أبي شيبة ( 12 / 358 ط السلفية ) بلفظ " أما صاحبك فمضى على إيمانه ، وأما أنت فأخذت بالرخصة " من طريق يونس عن الحسن البصري ، فالحديث مرسل .
(18)الدر المنثورة 5 / 172 ، والرازي في تفسير سورة آل عمران 8 / 28 ، وفتح الباري 12 / 211 ط السلفية .
(19)تفسير القرطبي 4 / 57 القاهرة ، دار الكتب ، وتفسير الرازي 8 / 14 .
(20)المبسوط للسرخسي 24 / 45 .
(21)المبسوط 24 / 45 ، وفتح الباري لابن حجر شرح صحيح البخاري 12 / 211 القاهرة . المكتبة السلفية 1372 ، وتفسير الرازي 8 / 14 .
(22)سورة الأحزاب / 38 ـ 39 .
(23)سورة المائدة / 67 .
(24)تفسير القرطبي 6 / 242 .
(25)شرح مسلم الثبوت 2 / 97 مع المستصفى . بولاق ، وانظر مختصر التحفة ص 294 .
(26)مختصر التحفة الاثنى عشرية ص 295 .
(27)سورة النساء / 29 .
(28)تفسير القرطبي 4 / 57 .
(29)سورة العنكبوت / 2 ، 3 .
(30)حديث : " لا تشرك بالله شيئا وإن قتلت وحرقت " . أخرجه أحمد ( 5 / 238ط المكتب الإسلامي ) ، وابن ماجه ( 2 / 1339 ط عيسى الحلبي ) واللفظ له . قال البوصيري إسناده حسن . مختلف فيه ( مصباح الزجاجة 4 / 190 ط دار العربية ) .
(31)حديث : " لا تبعة عليه " سبق تخريجه ف / 7 .
(32)المبسوط للسرخسي 24 / 44 ( كتاب الإكراه ) ، وحديث خبيب : " هو أفضل الشهداء " . قال الزيلعي : ( غريب ) ( نصب الراية 4 / 159 ط المجلس العلمي ) ، وأصل حديث خبيب في البخاري ( 7 / 165 ط السلفية ) ،
(33)حديث : " قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل ، فيحفر له في . . . " أخرجه البخاري ( فتح الباري 12 / 315 ط السلفية ) .
(34)حديث : " حرمة مال المسلم كحرمة دمه " أخرجه أبو نعيم في الحلية ( 7 / 334 ط السعادة ) . والدارقطني ( 3 / 26 ط دار المحاسن ) . له طرق يتقوى بها ذكرها ابن حجر في التخليص الحبير ( 3 / 46 ط شركة الطباعة الفنية ) .
(35)حديث : " من قتل دون ماله فهو شهيد " . أخرجه أبو داود ( 5 / 128 ط عزت عبيد الدعاس ) . والترمذي ( 4 / 30 ط مصطفى الحلبي ) وقال : حديث حسن صحيح .
(36)تفسير الرازي ( 8 / 14 ط البهية المصرية 1938م ) .
(37)حديث : " من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة . . . " أخرجه ابن ماجه ( 2 / 874 ط عيسى الحلبي ) ، والبيهقي ( 8 / 22 ط دار المعرفة ) . واللفظ لابن ماجه . قال الحافظ البوصيري في الزوائد : في إسناده يزيد بن أبي زياد بالغوا في تضعيفه .
(38)تفسير الرازي 8 / 14 .
(39)المغني 8 / 147 القاهرة ، دار المنار ، الطبعة الثالثة .
(40)الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 368 القاهرة ، عيسى الحلبي .
(41)سورة النساء / 97 .
(42)روح المعاني 5 / 126 القاهرة ، المطبعة المنيرية ، 1955م وقال : إن ترك التأويل بلا عذر لا يقع طلاقه على الصحيح ، الفروع 5 / 368 ، والإنصاف 8 / 441 .
(43)سورة النساء / 98 ـ 99 .
(44)مختصر التحفة الاثني عشرية ص 287 .
(45)حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 368 .
(46)فتح الباري 12 / 314 .
(47)سبق تخريجه ف 15 .
(48)سبق تخريجه ف 15 .
(49)تفسير الرازي 8 / 14 ، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 368 .
(501)المبسوط 24 / 52 ، الدر المختار بهامش حاشية ابن عابدين 5 / 80 ، 81 ، والفروع لابن مفلح 5 / 368 ، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 368 .
(51)مختصر التحفة الاثنىعشرية ص 288 .
(52)سورة آل عمران / 187 .
(53)الهداية وتكملة فتح القدير 7 / 292 ، 293 القاهرة . المطبعة الميمنية 1319 هـ ، ورد المحتار 5 / 80 ط بولاق .
(54)فتح الباري 12 / 314 .
(55)تفسير الرازي 8 / 14 .
(56)فتح الباري 12 / 314 .
(57)سورة الأنعام / 119
(58)المبسوط 24 / 48 ، وفتح الباري 12 / 314 .
(59)كشاف القناع 1 / 385 .
(60)حديث : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " . أخرجه البخاري ( 13 / 251 ط السلفية ) ، ومسلم ( 2 / 975 ط عيسى الحلبي ) ، واللفظ للبخاري من حديث أبي هريرة .
(61)كشاف القناع 1 / 495 ـ 499 ، والمغني 1 / 630 ، 2 / 188 .
(62)حديث : " لا تؤمن امرأة رجلا ، ولا فاجر مؤمنا ، إلا أن . . . " أخرجه ابن ماجه ( 1 / 343 ط عيسى الحلبي ) . من حديث جابر بن عبد الله . قال الحافظ البوصيري في الزوائد . هذا إسناد ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان وعبد الله بن محمد العدوي .
(63)المغني 2 / 186 ، 192 .
(64)المغني 4 / 214 ، والإنصاف 4 / 265 ، وكشاف القناع 3 / 150 ، وتبصرة الحكام لابن فرحون 2 / 5 .
(65)تبصرة الحكام 2 / 3 ـ 5 .
(66)سورة لقمان / 17 .
(67)حديث : " أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ثم رجل قام إلى . . . " أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ ( 6 / 377 ط السعادة ) من حديث جابر بن عبد الله وإسناده حسن .
(68)البداية والنهاية لابن كثير 10 / 334 ، 335 القاهرة ، مطبعة السعادة .
(69)أحمد محمد شاكر ، في تعليق على دائرة المعارف الإسلامية ، الطبعة المترجمة إلى العربية مادة : " تقية " .
(70)طبقات الشافعية للسبكي 1 / 276 ، 277 بيروت ، دار المعرفة بالتصوير عن الطبعة المصرية القديمة .
(71)المبسوط للسرخسي 24 / 130 ، 131 ، وينظر الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 368 .
(72)سورة الأنعام / 145 .
(73)سورة آل عمران / 28 .
(74)سورة آل عمران / 29 .
(75)سورة النحل / 110 .
(76)سورة العنكبوت / 10 .
(77)تفسير الطبري 20 / 132 .
(78)سورة النحل / 110 .
(79)سورة النحل / 106 .
(80)حديث : " دخل رجل الجنة في ذباب . . . " أخرجه أحمد في الزهد ( ص 15 ط دار الكتب العلمية ) ، وأبو نعيم ( الحليلة 1 / 203 ط السعادة ) موقوفا على سلمان . ويرجع لشرح الحديث إلى كتاب " تيسير العزيز الحميد " للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب .
(81)تيسير العزيز الحميد ص 162 نشر إدارات البحوث العلمية بالسعودية..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقله ونسقة أخوكم

0 التعليقات:
إرسال تعليق